حتى لا يقتصر الاهتمام فقط على ما هو راهن أو داهم من تطورات
اقتصادية واجتماعية جارية – دقّة الوضعين النقدي والمالي، تفاقم البطالة والأحوال المعيشية للسكان،
إنهيار المرافق العامة وتعطيل المناقصات العمومية، تسابق أطراف السلطة على نهب المال العام بعد تبخّر
مصادر تمويلها الخارجية - قد يكون من المفيد إعادة إنعاش الذاكرة ووضع هذه التطورات في سياق تاريخي، من
خلال قراءة هادئة لنتائج أربع صدمات اقتصادية واجتماعية كبرى (Shocks) تعاقبت في تاريخ لبنان المعاصر،
وأحدثت إنقلابا جذريا في توزّع الثروة والدخل فيه بين الفئات الاجتماعية
المختلفة.
الصدمة الأولى تمثّلت في تزامن الحلقة الجهنمية للانهيار
النقدي والارتفاع غير السبوق في معدلات التضخم ما بين اواسط الثمانينيات واواسط التسعينيات: فمن نحو 4
ليرات لبنانية للدولار الأميركي الواحد، انخفض سعر صرف الليرة الى نحو 2800 ليرة عام 1992، في وقت كان
المعدل الوسطي لاسعار الاستهلاك (التضخم) يسجّل ارتفاعا بنسبة 110 بالمئة سنويا بين عام 1984 وعام 1994.
وهذا ما انطوى على أكبر عملية إعادة توزيع قسرية وذات طابع رجعي (regressive) للدخل والثروة الوطنيين،
مع انتقال جزء مهمّ منهما من عموم المواطنين الى حفنة من كبار المتنفذين ورجال الاعمال والمصارف، لا
سيما أولئك المنتشرين في دوائر أركان الحكم ومجتمع المصارف والذين أتقنوا انتهاز الفرص، فاقترضوا آلاف
المليارات من الليرات اللبنانية من القطاع المصرفي آنذاك وأعادوا تسديدها بعد حين بأقل من خمس بل حتى
عشر قيمتها الاصلية، بالرغم من تحمّلهم معدلات فائدة وصلت في بعض الاحيان الى 45%. وكان من ابرز
المتضررين من هذه "اللعبة" مئات الالوف من الأجراء الذين تبخّرت القوة الشرائية لمداخيلهم، وبخاصة ما
يحقّ لهم من تعويضات نهاية خدمة محرّرة قانونا بالليرة اللبنانية، فضلا عن تضرّر مصالح فئات واسعة من
صغار ومتوسطي المودعين بالليرة اللبنانية قبل أن تتعمّم ظاهرة دولرة الاقتصاد
اللبناني.
الصدمة الثانية تجسّدت في حدّة إنقلاب السياسات المالية للحكومات
المتعاقبة بدءا من أواسط التسعينيات، والذي أدّى الى التوسّع في الانفاق العام الجاري بالتزامن مع تهافت
الحكم على خفض الضرائب على رأس المال الكبير (الغاء الطابع التصاعدي للضريبة، وتخفيض معدلات الضريبة على
الأرباح، وتقليص الرسوم الجمركية الى ما دون ثلث معدلاتها السابقة)، مما أوجد الأساس لبداية تشكّل مشكلة
الدين العام ومن ثمّ تفاقمها. وإرتبط هذا النهج بأوهام رافقت توقيع اتفاق اوسلو، حول توزيع العوائد
الموعودة من السلام العربي - الاسرائيلي، وترغيب بلدان المنطقة - بما فيها خصوصا لبنان - بمنافع
اقتصادية سيجري توزيعها في مقابل تسوية مشكلة اللاجئين الفلسطينيين. ومع تنامي العجز البنيوي في المالية
العامة، كنتيجة لزيادة الانفاق وخفض الضرائب المباشرة، لم يعد من سبيل أمام الطاقم الحاكم، كي يتمكّن من
مواصلة الانفاق وادارة العجز المالي، سوى الاعتماد على زيادة الضرائب والرسوم غير المباشرة من جهة، وخطب
ودّ المصارف من جهة ثانية لإمداد الدولة بالقروض اللازمة بمعدلات فائدة سخية تتجاوز ما يبرّره الواقع
الفعلي للمخاطر السيادية. فكان أن تحمّل المواطن العادي - في كلتا الحالتين - وزر هذه السياسات التي
عزّزت انتقال المزيد من الدخل والثروة من عموم الناس الى القلّة من المتنفذين في الحكم واصحاب رؤوس
الاموال.
الصدمة الثالثة تلازمت مع تفجّر ثورة الريع العقاري التي إمتدّت بين
عام 2007 وعام 2011، هذا الريع الذي بقي - حتى ماض قريب (موازنة 2017) - شبه معفيّ من الضرائب بالمقارنة
مع باقي عوامل الانتاج، والذي ترسّخت مواقعه في اقتصاد هزلت مقوماته الانتاجية وطغت عليه ظاهرة التورّم
المالي المرتبطة بجملة عوامل، أهمها: نمط تمويل العجز المالي وادارة الدين العام، وغلبة الاستيراد
الاستهلاكي المقوّض للانتاج المحلي، وتدفق الاستثمارات الاجنبية المباشرة (FDI) الموجهة حصرا نحو تملك
المباني والأراضي وتغذية المضاربات، هذا بالاضافة الى التصدير المنهجي للكفاءات البشرية التي عجزت
التركيبة الاقتصادية عن استيعابها، ولا ينظر الى دورها الانمائي إلا عبر ما تنتجه من تحويلات مالية
يستخدمها الطاقم الحاكم كأداة مركانتيلية للتغطية على مواطن ضعف الاقتصاد الوطني. ويكفي أن يكون متوسط
سعر الشقة السكنية في بيروت موازيا في الوقت الحاضر لنحو600 مرّة قيمة الحد الأدنى الشهري للأجور، في
مقابل نحو 150 مرّة في أواسط السبعينيات، كي ندرك أن أكثر من نصف الشباب والأطفال المقيمين راهنا في
بيروت سوف يعجزون عن الحصول على مسكن يأويهم في العاصمة والضواحي، بعد جيل أو جيلين. إن ثورة الريع
العقاري هذه قد عزّزت من دون شكّ إختلال العلاقة بين العمل ورأس المال، وعمّقت - كالصدمتين السابقتين -
أوجه عدم المساواة والفجوات في توزيع الثروة والدخل.
الصدمة الرابعة تمثّلت في
تعاظم دور النواة العضوية الضيّقة التي تجمع المصارف الكبرى والقيّمين على السياسة النقدية (والمالية)
في البلاد. ففي وقت أصبحت فيه المخاطر السيادية واحدة على الطرفين - نتيجة تراجع معدل نمو الودائع
المصرفية وتزايد العجوزات القياسية في الحسابات الخارجية (الميزان التجاري، ميزان المدفوعات، الحساب
الجاري) - إتجهت هذه النواة نحو التحكّم المطلق في تحديد معدلات الفائدة، وتقرير حجم ونوع إصدارات سندات
الخزينة بالليرة وبالعملات الأجنبية وكذلك شهادات الإيداع. كما ساهمت في إخفاء التكاليف الفعلية التي
جرى تحميلها للمواطن اللبناني بسبب تعاقب إفلاسات العديد من المؤسسات المصرفية منذ نحو عقدين، وتغاضت عن
عدم نشر مصرف لبنان (وكذلك المؤسسات العامة) لحسابات الربح والخسارة العائدة اليه، وصولا الى تفرّد هذا
الأخير في تنظيم الهندسات المالية التي تجاوزت قيمتها في عام واحد 10 بالمئة من الناتج المحلي الاجمالي
(بدءا من أيار 2016). وفي إطار هذا الانحياز بالذات، يجب إدراج الاعتراض المتمادي الذي أبدته تلك النواة
فعليا ضد إقرار سلسلة الرتب والرواتب - التي لا تعدو كونها مطلب حقّ تعويضا عن خسارة طالت القوة
الشرائية للأجر على مدى سنوات – وكذلك مقاومتها الشرسة حتى اللحظة الأخيرة، لحظة إقرار موازنة عام 2017،
ضد تمرير بعض البنود الضريبية التي طالت جزءا من أرباح المصارف الكبرى.
عندما
تتعاضد مفاعيل مثل هذه الصدمات لتعمّق أوجه عدم عدالة توزّع الثروة والدخل في بلد يفتقد الى دولة مؤسسات
– وتضاف اليها مؤخرا مفاعيل النزوح السوري التي قلّصت حصّة أجور العاملين في القطاع الخاص من الناتج
المحلي القائم نتيجة تنافس فقراء اللبنانيين مع فقراء السوريين، وزادت حصة الأرباح الرأسمالية نتيجة
إستهلاك مليون مقيم إضافي - فان على المرء أن يقلق من أن يكون البلد متجّها نحو انفجار اجتماعي كبير لا
يكبحه في المدى القصير سوى الاستثمار السياسي الأرعن للظاهرة الطائفية والمذهبية: فقد صدرت في غضون أشهر
قليلة هذا العام، ثلاث دراسات دولية أفضت الى نتائج مترابطة: الأولى أشارت الى أن 2 بالمئة من العاملين
في القطاع الخاص في لبنان يحوزون على دخل يوازي دخل شريحة الـ 60 بالمئة الأفقر من العاملين (UNDP
February 2017)؛ وأشارت الثانية الى أن 1 بالمئة من السكان البالغين يستأثرون بنحو 25% من الدخل الوطني
و40 بالمئة من الثروة (WID.World – September 2017)؛ أما الثالثة فأفادت أن لبنان أصبح في المرتبة
الرابعة عالميا بين 141 بلدا، لجهة حدّة إنعدام العدالة وتركز الثروة فيه (Gini coefficient). فهل من
أحد يقنعنا بأن أحزابا سياسية كأحزابنا الطائفية أو مجلسا نيابيا كمجلسنا أو حكومة كحكومتنا أو "رجالات"
سياسة كرجالاتنا هم مؤهلون وقادرون على إبتداع رؤى وسياسات مستقبلية كفيلة بمقاربة هذا الخطر غير
المسبوق الذي يتهدّد استقرار البلد على غير صعيد؟ ألم تحن الساعة - في ظل العهد الجديد الذي يحاول أن
يكون مختلفا - للتأمّل الفعلي بإمكان تجديد التجربة الاصلاحية الشهابية وتطويرها قبل فوات الأوان، حتى
لو أدّت الى مواجهة مع "الطبقة السياسية" ورأس المال
الكبير؟
خبير اقتصادي |