التاريخ: تشرين الأول ٣٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
طرائق مضرة في تدخل واشنطن وانسحابها من المنطقة أكثر ضرراً - سام منسى
يصعب عدم التوقّف عند الخطاب الذي ألقاه نائب الرئيس الأميركي مايك بنس في مؤتمر الدفاع عن المسيحيين في واشنطن في 26 تشرين الأول (أكتوبر) الجاري حيث طمأن مسيحيي الشرق الأوسط بأن الولايات المتحدة ستقف دائماً إلى جانب من يعانون بسبب ديانتهم. وقال مخاطباً المسيحيين في المنطقة: «المساعدة في طريقها إليكم».

الانطباع الأول جراء الاستماع إلى هذا الكلام هو مشهد حملة عسكرية قرأنا عنها في كتب التاريخ. الانطباع الثاني قد يكون تأثر نائب الرئيس بنس بأجواء المؤتمر التي تدور على فكرة حماية الأقليات وتشطح أحياناً إلى حلف الأقليات وهو احتمال مستبعد. طبعاً، إن حماية فئات مضطهدة أو مهددة قضية ملحة وضرورية، إنما أيضاً ينبغي أن لا نصاب بفقدان الذاكرة وأن نسترجع تجارب مرّة جراء التعويل على مواقف مماثلة سابقة. أما الانطباع الثالث بأن يكون نائب الرئيس يعتبر أن الخطر على المسيحيين يقتصر على التشدُّد الإسلامي العنيف فقط وينسى فظائع الأنظمة الاستبدادية «العلمانية» على ما تدعي، بالمسيحيين والمسلمين. أما الانطباع الرابع فيشي بأن سياسة الإدارة الحالية تبقى مشوشة وملتبسة على رغم إعلان الرئيس ترامب عن الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران لكونها لا تزال تدوّر الزوايا عندما تواجَه بجرائم الرئيس السوري ونظامه على مدى سبع سنوات بينما تعلن عن حملات لإنقاذ المسيحيين. أما الانطباع الخامس والأخير، وهو الأخطر لكون طبيعة النظرة إلى المسيحيين العرب بأنهم جالية أو رعايا وليسوا مواطنين وأن إنقاذهم يتم بمعزل عن إنقاذ إخوتهم من المواطنين المسلمين.

كلمة نائب الرئيس الأميركي تحفّز على مراجعة سياسة الإدارة الأميركية، لاسيما بعد مرور سنة تقريباً على انتخاب دونالد ترامب رئيساً، كما ما ينبغي توقعه منها. إنما من الصعب التحدُّث عن سياسة الإدارة الحالية تجاه المنطقة من دون الرجوع إلى السياسة الخارجية الأميركية خلال عهد أوباما.

سياسة الإدارة الأميركية السابقة تجاه الإقليم أدت إلى ضرر غير قابل للتعويض أو الإصلاح «irreversible Damage» في المنطقة العربية، جراء الرغبة الجامحة في الوصول إلى اتفاق نووي مع إيران بأي ثمن كان. وساهم ذلك إلى حد كبير في الوصول إلى الحال الراهنة في العالم العربي، ما دفع بمتابعي شؤون المنطقة إلى القول إن تدخّل أميركا مضر وانسحابها أكثر ضرراً. وبالتالي فهذه الإدارة، مهما كانت قدرتها على التصويب والتصحيح، تحتاج إلى الكثير من الوقت.

ولا بد هنا من الإشارة، إلى إن سياسة الإدارة السابقة أو موقفها من المنطقة العربية ليس فقط بسبب شخصية الرئيس أوباما أو الإدارة الديموقراطية فحسب، بل هي جزء من مزاج أميركي يعتبر أن هذه المنطقة يصعب إصلاحها ولا لزوم لتضـــييع الكثير من الجهد والوقت والمال لتصويبها.

وعلى رغم أن هذه الإدارة ذات توجــهات مغايرة عن الإدارة الـــسابقة، لكنها تواجه مطبات داخلية كثيرة وغير مســـبوقة بسبـــب شخصية الرئيس ترامب والمعارضة الشديدة التي يواجهها، سواء من حزبه ومن الحزب الديموقراطي، إضافة إلى غالبية الإعلام الأميركي، ما يشـــتت تركيزها لتصويب علاقتها بالمنطقة، علماً أن رموزاً رئيسة في هذه الإدارة، مثل وزير الدفاع ماتيس ومسؤول الأمن القومي ماكماستر تدرك أهمية المنطقة والمصالح الأميركية فيها.

إضافة إلى ما ســبق لا ينبغي إهمال الخلل الداخلي في دول المنطقة بعامة. ليس إهمال أميركي وتدخّل إيراني وسياسة سعودية ونظام قاتل في سورية، بل هناك مشاكل بنــيوية مرتبـــطة بالثـــقافة الســياسية في المنـــطقة بعامة. عوائق بنيوية أساسية تجعل المنطقة قابلة وقادمة على تعقيدات وحروب ونزاعات تجعل اللااستقرار سمة المرحلة المقبلة.

لا يحتاج المراقب إلى كثير من العناء لقراءة التغيير في سياسة الولايات المتحدة تجاه المنطقة، أقله في محاولة إعادة التوازن، لا أكثر ولا أقل، مع التمدُّد الروسي والإيراني غير المسبوقين. إنما الأوضاع المستجدة في المنطقة تدفع إلى أسئلة كثيرة، أولها: هل واشنطن راغبة في مواجهة مباشرة مع موسكو المتمدّدة في الإقليم؟ طبعاً أميركا قادرة على ذلك، إنما: هل المنطقة باتت من الأولويات التي تقضي بمواجهة مع روسيا؟

إضافة إلى الشان الروسي هناك حجم دور إيران في أكثر من دولة عربية وارتباط أي ضغوط أميركية على الأدوار الإيرانية بموقف إيران من الاتفاق النووي. ومن جهة ثانية المواقف الأوروبية حليفة واشنطن الرافضة مراجعة الاتفاق النووي، ما يحدّ من القدرة الأميركية على ليّ الذراع الإيرانية النشطة في الإقليم.

إن انفتاح المملكة السعودية على موسكو يعبّر أصدق تعبير عن إدراك الرياض طبيعة السياسة الأميركية. إن التوجُّه إلى الروس بهذا الشكل وحفاوة استقبال العاهل السعودي بالمقابل ونتائج الزيارة بعامة، يدل أولاً على الاستعداد لاحتمال استمرار التردُّد الأميركي تجاه المنطقة الذي اعتمده أوباما ولم يتغيّر بالمستوى الكافي في عهد الرئيس ترامب لغاية هذا الوقت بالذات. هذا فضلاً عن الاهتمام بطبيعة الهجمة الروسية في المنطقة.

كما أن المقاربة الأميركية للأزمة الخليجية مع قطر والإحجام الأميركي عن اتخاذ موقف زاد من حجم الارتباك confusion الخليجي والعربي بعامة. وعلى الرغم من إعلان الرئيس ترامب الاستراتيجية الأميركية تجاه إيران والعقوبات الإضافية عليها كما على «حزب الله» اللبناني، تبقى كيفية تحويل المواقف غير المسبوقة بوضوحها ودقّتها من دور إيران في المنطقة على مدى أكثر من خمسة وثلاثين سنة، إلى أفعال.

في هذا السياق يصبح مشروعاً وضرورياً التساؤل عما إذا كانت الولايات المتحدة الأميركية تجلب الاستقرار؟

أن تبقى الأمور في المنطقة على غرار السنوات العشر الماضية لا يبشر بالخير، لاسيما أن حجم الفظائع المرتكبة على أكثر من صعيد سوف تبقى آثارها لعقود قادمة على المستويات كافة من سياسية واقتصادية، وأخطرها الاجتماعية والثقافية، وعلى مستوى الشباب بخاصة.

قد يلتبس الأمر على كثيرين في منطقتنا اعتادوا اعتبار الـــتدخُّل الأميركي سبـــب النكبات والكوارث، كما اعتبار هذا الكلام من قبيل الترويج لعودة الاستعمار أو الانتداب، إنما أيضاً لا بد من الأخذ بالاعتبار أن المنطقة تراجعت عقوداً إلى الوراء بينما العالم يتقدم، في زمن يُحتسب التقدّم بالساعات وليس بالسنوات.

في السياق نفسه لا بد من الإضاءة على ما يأتي:

إن الفراغ الناتج عن الانسحاب الأميركي سوف تملأه قوى أخرى، أولها روسيا، إضافة إلى قوى إقليمية كبرى على غرار إيران وتركيا ولن ندخل إسرائيل ضمنها. النماذج الثلاثة غير مشجّعة إطلاقاً بناء على التجارب التاريخية، إضافة إلى طريقة الحكم في روسيا وطبيعة النظام الإيراني، وأخيراً «إنجازات» الرئيس التركي وحزبه في السنوات الأخيرة على المستويات كافة وأثرها في مستقبل هذه الدولة.

بصيص النور في آخر النّفق المظلم الذي تمرّ به المنطقة لن يتسع من دون إعادة التوازن إليها وعودة أحجام الأطراف المتنازعة إلى طبيعتها الأصلية من دون ضمور أو انتفاخ، هذا الأمر لن يتحقق من دون تدخُّل جدي أميركي بخاصة وغربي بعامة، يعيد التوازن إلى المنطقة، وبالتالي لن تشهد استقراراً من دونه.

الخروج من النفق لن تحققه تسويات سياسية فحسب بل نهضة تشمل الاقتصاد والاجتماع والتربية والثقافة ومكافحة الفساد وحوكمة رشيدة. لا نحتاج إلى كثير من التفكير والبحث لتبيان الفرق بين ما يمكن أن تقدم التجارب والمؤسسات الغربية وتلك القادمة من روسيا أو الصين أو إيران. الانخراط الغربي ضرورة ما دامت القوى المحلية قاصرة. المنطقة يمكن أن تنهض بشكل سليم أكثر، صحيح أكثر، صحّي أكثر بشراكات غربية، بدلاً من أن تنهض على تجارب وخبرات روسية، صينية وإيرانية، لا سيما في مناطق على غرار سورية والعراق واليمن وغيرها.

الخلاصة تكرّر ما سبق، التدخُّل الأميركي ضرر، لا سيما إذا كان على غرار ما ورد في كلمة نائب الرئيس بنس، وانسحاب أميركا أكثر ضرراً.
 
 
* إعلامي لبناني.