لنلاحظ أن التغييرات الوحيدة التي حصلت في المنطقة في العقود الأخيرة، وطاولت تغيرات في الخريطة، تمثّلت في وحدة اليمن، بضم الجنوب إلى الشمال، لكن ذلك جرى بالتخلص من ظاهرة اليمن الجنوبي، بغض النظر عن تقييمنا لها، كما جرى ذلك في حدث انفصال جنوب السودان، وفي منح إقليم كردستان في شمال العراق حكماً ذاتياً، في إطار الدولة العراقية، وفي إعطاء الفلسطينيين حكما ذاتياً، أيضاً، تحت الهيمنة السياسية والأمنية والإدارية والاقتصادية الإسرائيلية. لكن لنلاحظ، في هذا السياق، أن أهم تغيير على الإطلاق حصل في احتلال إسرائيل أراضي عدة دول عربية (1967)، ثم في استعادة مصر لشبه جزيرة سيناء، بثمن اتفاقية الصلح التي أبرمتها مع إسرائيل.
في المقابل شهدنا في العقود الماضية أن النظام الدولي لم يسمح بأي تغيير في لبنان لمصلحة القوى الوطنية- غير الطائفية، إذ جرى إعادة إنتاج النظام الطائفي اللبناني، بقوة التدخّل العسكري للنظام السوري، نيابة عن القوة الدولية والإقليمية، وعبر مؤتمري الطائف (1989) ثم الدوحة (2008). أيضاً تم تدفيع العراق ثمناً باهظاً جراء غزوه الكويت، أو ادعاءاته في الكويت، أما بالنسبة للفلسطينيين لم يسمح لهم بتحقيق أي إنجاز عبر انتفاضتهم الأولى الشعبية (1987-1993)، إذ جرى امتصاص ما تحقق باتفاق مجحف وناقص (أوسلو 1993)، وباستيعاب حركتهم الوطنية وتكييفها، مع الواقع الدولي والإقليمي والإسرائيلي. وقد حصل ذلك بالنسبة لحزب الله، الذي أجبر على كشف حقيقته كحزب ديني وطائفي وكذراع إقليمية لإيران، وبتخليه عن التغطّي بالمقاومة، بإدارته بندقيته إلى الداخل اللبناني ثم ضد الشعب السوري. وأخيراً تبيّن أنه من غير المسموح حتى للأكراد بأن يغيروا واقعهم في العراق، على رغم كل الإشارات الدولية المشجّعة لهم، حتى مع استفتاء شارك فيه الملايين.
بيد أن الاستعصاء الأكبر، الذي شهدته المنطقة، يتمثل في مآلات، أو خيبات، «الربيع العربي»، الذي استحال إلى كارثة في سورية، على رغم كل التضحيات والمعاناة، مع مئات آلاف الضحايا، وتشريد الملايين وتدمير عمران مدن سورية عدة، ودخول قوى دولية وإقليمية عدة على خط الصراع السوري.
يستنتج من كل ذلك، أولاً، أن منطقة الشرق الأوسط هي منطقة بالغة التعقيد، لدرجة يصعب معها فصل العوامل الداخلية عن الخارجية، يفاقم من ذلك أن عطالتها مستمدة من وضعها الذاتي، وبخاصة من طبيعة الأنظمة الحاكمة، المهجوسة أساساً، وقبل أي شيء، بالحفاظ على وضعها في السلطة، على حساب الدولة وإدارة المجتمع. ثانياً، أن ثمة حدوداً أو سقفاً معيناً للتغيير، في هذه المنطقة، كما أن ثمة قوى كبرى تتحكم بمسارات التطور السياسي والاقتصادي فيها، بحيث أن حتى قوى إقليمية كبيرة مثل تركيا أو إيران لا تستطيعان تغيير شيء. وقد شهدنا أن كلاً من إيران وتركيا يمكن أياً منهما أن تشاغب، وأن تقوم بخطوة غير عادية هنا أو هناك، كما يمكن أن تستنزف كل واحدة منهما قواها، في هذا الصراع أو ذاك، لكن لا يمكن أي منهما أن تلعب خارج الخطوط الحمر أو أن تكسرا القواعد، ولعل هذا ينطبق على إسرائيل، التي باتت ملتزمة بالعمل داخل حدودها، مع هامش يتيح لها ذراعا طويلة للحفاظ على أمنها فقط إزاء التهديدات الخارجية.
ولعل ما تقدم يفسّر، إلى حد ما، الصدّ الأميركي لتركيا في سورية والعراق، في مقابل السماح الأميركي لإيران في سورية والعراق (ولبنان)، لأن أي تغيير قد تحدثه الأولى في سورية أو العراق يمكن أن يؤثر، أو أن يترسّخ، في حين أن أي تغيير قد تحدثه إيران لا بد سيحمل معه عوامل تصدعه، وتصدع البيئات التي يحدث فيها. أما تفسير سماح الولايات المتحدة، أو تسهيلها، هيمنة إيران على العراق، منذ 2003، فهذا يعود لاعتبارات أميركية (وإسرائيلية) أكبر، كما تبيّن، أولاً، في استخدامها لابتزاز الأنظمة العربية، وضمنها الأنظمة الخليجية بعد حدث 11 أيلول (سبتمبر) 2001. ثانياً، في تظهيرها كعدو آخر ربما أخطر من إسرائيل على دول المنطقة ومجتمعاتها، وهو ما أكدته إيران بالسياسات التدخلية التي انتهجتها. ثالثاً، لأغراض الاستثمار في سياساتها الطائفية- المذهبية، لا سيما أنها تجيّر استقطابها قطاعات من جمهور «الشيعة» في بلدان المنطقة، ما يفضي حكماً إلى زعزعة وحدة مجتمعات المشرق العربي، وهو ما حصل. ومعلوم أن القاعدة الاجتماعية «السنية»، تبدو عصيّة على التطييف، ولا تنظر إلى ذاتها بصيغة طائفية، كما تبيّن، لأسباب عدة، وقد شهدنا أن الصراع السوري لم يحرك جمهور السنة، لا في لبنان ولا الأردن ولا مصر ولا في أي مكان.
وقد ثبت، من كل التطورات، أنه لا يوجد للطائفة «السنّية»، إن صحّ التعبير، أي مركز، لا دولة ولا حزب ولا زعيم. وعلى العموم ففي استخدام إيران، وصل الوضع إلى درجة يمكن القول معها أن عوائد تصعيد إيران في العراق ولبنان وسورية، بالنسبة للولايات المتحدة، وإسرائيل طبعاً، هي أكثر بكثير من التبعات الناجمة عن ذلك عليهما، إذ تبدو إسرائيل هي المستفيد الأكبر من صعود إيران في الإقليم، لا سيما من السياسة التي انتهجتها، إذ أن تصدّع البنى الدولتيّة والمجتمعية في دول المشرق العربي حصل بفعل إيران، أكثر بكثير مما حصل بسبب إسرائيل.
لا نقصد من كل هذه الاستنتاجات القول إن العوامل الخارجية هي العامل الحاسم، بقدر ما نقصد الإشارة إلى حقيقة أن العوامل الداخلية لم تنضج بعد إلى الدرجة التي تؤهلها لإحداث تغييرات حقيقية في المنطقة، بحكم الأنظمة المستبدة التي تقف كعقبة كأداء أمام التغيير، وقد شهدنا مثالاً على ذلك في التجربة السورية. كما لا نقصد تبني عقلية المؤامرة بقدر ما نقصد توضيح حجم المداخلات والتشابكات الخارجية في هذه المنطقة، وتحكم القوى الخارجية، لا سيما الولايات المتحدة بمساراتها؛ وإلا فما هو التفسير لكل ما يجري، في المنطقة، وفي سورية والعراق خصوصاً؟
|