التاريخ: تشرين الأول ٢٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
هل فشل الحوار الليبي؟ نعم ولكن - محمد الحدّاد
انـــتـــهت جــــــولة المفاوضات في الشأن الليبي من دون نتيجة. هذه المفاوضات التي حصلت برعاية منظمة الأمم المتحدة وبهندسة غسان سلامة، المبعوث الأممي إلى ليبيا، تمت على نحو شبه سري في تونس من دون أن تحقّق الأمل الذي كان معلقاً عليها، ولم يتوصل الفرقاء الليبيون إلى حدّ أدنى من التفاهم يسمح برسم خريطة طريق جديدة للانتقال السياسي في البلاد.

على عكس ما يحدث عادة عندما تفشل مفاوضات من هذا القبيل، يمكن أن نراهن على أنّ هذا الفشل لن يكون له وقع كبير في ليبيا ذاتها ولن يغيّر شيئاً من الأوضاع هناك، إذ إنّ الجزء الأكبر من الليبيين لا يبدو أنه كان عابئاً أصلاً بما يحدث. ثمة شيء ما يحدث في هذا البلد وربما في بلدان أخرى من الشرق الأوسط يشبه أن يكون «تكيّفاً» مع وضع اللادولة، مع ما يترتب على هذا الوضع من عنف ومآسٍ. قدرة البشر على التكيف مع المستجدات ليست لها حدود وكل وقائع التاريخ تؤكّد أنّ البقاء ليس للأصلح (وإلا لما اختفت الدينوصورات) وإنما للأكثر قدرة على التكيف. والمجتمع الليبي لم يعش ظاهرة الدولة في الجزء الأكبر من تاريخه، لذلك تبدو قابلية التكيف لديه أكبر من المجتمعات الأخرى، حيث تنشأ تنظيمات صغرى تحلّ محلّ ما يعتبر عادة من وظائف الدولة، وأبرزها الأمن.

يبدو الوضع جديراً بالتأمل والدراسة، لكنه يثبت أن مجتمع اللادولة مجتمع بائس كئيب، كحال الليبيين اليوم. نظرية المجتمع بلا دولة التي سادت طويلاً لدى الانتلجنسيا تجد في ليبيا اليوم شاهداً على تهافتها وفشلها. هذه النظرية دافع عنها الفوضويون، وحنّ إليها علماء الاثنولوجيا الذين درسوا المجتمعات القديمة، واستبطنها كارل ماركس عندما تصوّر نهاية التاريخ في شكل مجتمع طبقي لا يحتاج إلى الدولة. وقد كتب على الليبيين أن يختبروها مرتين: مرة في عهد العقيد القذافي ومرة في عهد الثورة، وكان وضعهم بائساً في التجربتين، مع أنه اليوم أشدّ بؤساً.

هذه النظرية هي التي أراد البعض أيضاً تخصيص الشرق الأوسط بها، من خلال الدفاع عن أطروحة عدم قابلية شعوب هذه المنطقة لتقبّل نمط الدولة «الغربية». لكنهم في الحقيقة لم يحدّدوا شيئاً عن معالم الدولة «البديلة»، بما يجعلها في الحقيقة أقرب إلى اللادولة. لنتذكّر كتاب برتراند بادي «الدولتان: الدولة والمجتمع في الغرب وفي دار الإسلام» الصادر بعد الثورة الإيرانية، أو كتاب نوح فيلدمان الصادر بعد الثورات العربية بعنوان «سقوط الدولة الإسلامية ونهوضها». لم تنجح أية محاولة للخروج عن نمط الدولة السائد عالمياً وذي الأصول الأوروبية المعولمة. وكل النبوّات التي تبشر بغير ذلك تنتهي إلى الفشل. لكن في عديد مجتمعات الشرق الأوسط، انتشرت وتنامت تجارب «اللادولة»: في أفغانستان والصومال وسورية وليبيا وربما العراق أيضاً، لا بصفتها بديلاً بل بصفتها أمراً مفروضاً ليس من السهل التخلص منه، لكنه يؤدّي بعد فترة إلى ضرب من الاستقرار المزيف.

الثورات العربية، على العموم، رمت الرضيع مع الماء، كما يقول المثل الفرنسي، وخلطت بين معارضة السياسات الجائرة ومعارضة مبدأ الدولة ذاته. وهذا الموقف متوقع بسبب التماهي بين أنظمة الحكم وأجهزة الدولة، لكنه يعود أيضاً إلى تاريخ عريق من التوجس من السلطة والتحصّن بالتنظيمات الاجتماعية ماقبل السياسية، على غرار الأسرة والقبيلة والطائفة. تقدّم ليبيا المثال الأقصى للتقاطع بين راسب تاريخي عميق ووضع سياسي حادث. لكنّ الظاهرة في ذاتها أكثر انتشاراً، بحكم الفشل الواسع في إدماج المكونات العرقية والدينية واللغوية المتنوعة في دول وطنية قائمة على التعددية والتنوّع. وما بدا أحياناً نجاحاً إنما كان يخفي حالات قسرية مفروضة بالعنف، وهو أساس زائل، فما أن تعجز دول عن استعمال العنف لفرض سيطرتها حتى تنهار أو تصبح مسيطراً عليها.

كانت الفكرة السائدة قبل الثورات العربية تحميل أنظمة الحكم المسؤولية في هذا الوضع، لكن يتضح اليوم أنّ المسؤولية أوسع من ذلك: الذين استنقصوا من شرعية الدولة «القطرية» لحساب الدولة القومية النقية يتحملون جزءاً من المسؤولية، والذين وعدوا الشعوب بإنزال الجنة إلى الأرض وإقامة دولة تقوم على الورع والتقوى هم أيضاً مسؤولون، وكل الذين دافعوا عن خصوصية الدولة في المجال العربي واعتبروا الاقتباس خيانة أو كفراً مسؤولون أيضاً. ثقافة اللادولة تشمل جزءاً كبيراً من «الفكر» السياسي العربي الحديث.

لا شكّ في أن غسان سلامة، المثقف العارف بتعقيدات المجتمعات العربية، سيتجه أكثر فأكثر إلى إدخال المعطيات الاجتماعية والثقافية في مخططات السلام التي تطرحها مبادرات الأمم المتحدة. وثمة لا شكّ في المبادرة الأخيرة التي احتضنتها تونس تجديد في هذا الاتجاه ووعي بأنّ الأزمة الليبية لن تحلّ بالتفاوض السياسي المحض، والدليل التشريك الواسع نسبيا هذه المرة لمكوّنات من «المجتمع العميق». لكن من الضروري تعميق هذا المسار وتكثيفه وطرح مراحل زمنية قبل بلوغ الهدف المطلوب، فلن تقوم الدولة الليبية إلاّ على الأمد البعيد، ولا بدّ لها أن تقوم يوماً. إنّ الوضع الحالي يمكن أن يستمر طويلاً إذا اعتبرنا القابلية على التكيف والمصالح التي تجنيها منه جهات عديدة، داخلية وخارجية، لكن لا يمكن أن يتواصل إلى ما لا نهاية، ولا أن يتحوّل إلى بديل عن الدولة.

والأولى أن تبنى الدولة الليبية ببطء وثبات على أن يتواصل وهم إعلانها فجأة بعد اتفاق سياسي، كما حصل في السابق عند إعلان حكومة الوفاق الوطني برئاسة فائز السراج. وفي هذا السعي نحو الدولة، لا بدّ للمجتمع الدولي وللجوار الإقليمي أن يقوم بدور المساعدة والدعم، لأنّ في خروج ليبيا من أزمتها مصلحة الجميع.