لا حاجة للإستغراق في توصيف جذور السّجال السياسي المتفاقم حول معالجة أزمة النازحين من سوريا، خصوصاً في الشهريْن المنصرمين، دون تجاهل الفشل الذريع لمقاربة هذه الأزمة، والذي يسجّل للسلطة منذ العام 2011. وبنية هذا الفشل االمؤسِّسة غياب سياسة عامة مرتبطة بالأمن القومي، لصالح سياسات مشتتة ترقى إلى معادلة الإجراءات التّبسيطيّة. أضف إلى هذا الغياب سماتُ معطوبية بنيوية في مقاربة أزمات كيانيّة ملخصها الفوبيا، والديماغوجيا، والارتجال والشعبوية.
وبين غياب السياسة العامة وسمات المعطوبية البنيوية لا بد من إتخاذ مسافة من السجال، وتفادي الإنزلاق في تحليل أجندات متضاربة تتظهّر هنا وثمة في فعل تسجيل نقاط بين أقطاب السلطة، على حساب المقاربة الدولتية (Etatique)، الواجب كان أن تقوم منذ العام 2011، وعنوانها "تنظيم وفود النازحين وتنظيم وجودهم والاستعداد لعودتهم".
وفي هذا العنوان لم نصغ إلا إلى شعارات منبريّة وبكاءات أدبيّة، فيما لبنان يستأهل بلبنانييّه المتألمين، والنازحين إليه قسراً من سوريا، حوكمة من نوع الإدارة الاستثنائيّة عدا التهويل والنحيب أو استفزاز خيارات مؤدّاها كسر الإرادة السيادية، أكثر منه الدفع بإتجاه عودة النازحين.
قد يعتقد البعض أن ما سبق على كثير من التعقيد المشفّر، لكن في تقديري أنه على كثافة في تفكيك الإلتباسات التي يراد تسويقها، وسيسهم في تقوية هذه الإلتباسات حتّى التضليل الاستثماري في معركة تحسين مواقع النفوذ السلطوية وفرض خيارات ما فوق الدولة والشرعية، سيسهم في تقويتها خطاب الرئيس الأميركي دونالد ترامب أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، وفيه فقرة عن اللاجئين والنازحين والمهاجرين، قُرئت عمداً على ما يبدو عندنا، على غير ما هي عليه، وفي هذه القراءة المشوهة المتعمدة، تأكيد على قدرتنا الهائلة في الإستثمار الشعبوي.
لست هنا في معرض الدفاع أبداً عن خطاب الرئيس ترامب المرتبك أصلاً، لكن في تصويبي على تجنب التشويه، أستدعي الركون إلى النص الانكليزي الأصلي، والذي ورد فيه، إلى التأكيد على دعم الولايات المتحدة الإنساني لهؤلاء، ورد فيه وتم تجاهله، ما حرفيته: "نسعى إلى مقاربة لإعادة توطين اللاجئين بما يهدف إلى تمكين هؤلاء الأشخاص الذين عوملوا معاملة فظيعة، يهدف إلى تمكينهم من العودة في نهاية المطاف الى بلدانهم الأصليّة كجزء من عملية إعادة البناء". وحتماً هذا يتطلّب من الدول المضيفة التمهيد لعودتهم في مسار متعدد ومتدرج الخطوات.
في إستعادة هذه الترجمة الدقيقة، أود مصارحة من أطلق صفّارات الحملة مجدداً في مواجهة خيار العمل على ديبلوماسية لبنانية منهجية من خلال المجتمع الدولي والأمم المتحدة، بإفتعال معركة وهمية استباقية لأي توجه في هذا السياق، أود مصارحته بأننا فشلنا حتى الآن في التمهيد لعودة النازحين من سوريا، وهم ليسوا فقط سوريين، فمن بينهم لاجئون فلسطينيّون، وعراقيون، وحتى لبنانيين كانوا يقيمون في سوريا لأسباب متعددة، منها الإقتصادي والصناعي والتجاري. وفشلنا لا يُعالج سوى بالعودة إلى المساحة المشتركة حيث الأساس المصلحة الوطنية العليا، لا بسياسات مجزأة ومخصخصة، إذ لا تستقيم مقاربة دولتيّة (Etatique)، إن لم نطرح حلولاً متكاملة من السياسي، إلى السيادي، إلى القانوني، إلى الإقتصادي - الإجتماعي - البيئي فالديبلوماسي، وإلا نستمر في الإستجداء التمويليّ، واستعراض العضلات الخطابية، فتزداد التوتّرات، وتتراكم الإشكالات، وتعلو الجدران أمام الحلول.
في أي حال، ثمة أسئلة أسوقها من باب الحرص على وطني وهويته، كما على انتمائه للشرعيتيْن العربية والدولية، أسئلة أسوقها إلى ديبلوماسيتنا، آمل عليها إجابات:
1- لمَ لم يراسل لبنان رسمياً حتى الآن، ومن خلال القنوات الديبلوماسية، الأمانة العامة للأمم المتحدة فيما يتعلّق بالتمهيد لعودة النازحين؟ (خطاب فخامة رئيس الجمهورية في الجمعية العامة للأمم المتحدة يشكل بداية)
2- لمَ لم يتوجه لبنان حتى الآن وبموازاة مراسلة الأمانة العامة للأمم المتحدة، لم لم يتوجه إلى مسار جنيف والأستانة بما هما مؤسِّسان في أي عملية تسوية مقبلة في سوريا؟
3- لمَ لم يطلب لبنان إجتماعاً إستثنائياً على مستوى وزراء الخارجية العرب أو الأمانة العامة لجامعة الدول العربية لبناء موقف مساند للبنان وحتماً بالتنسيق مع الأردن؟
4- لمَ لم يستدع لبنان جلسة خاصة على مستوى مجلس الأمن بعد لوبيينغ ديبلوماسي غربي - دولي لإستصدار بيان حول العودة إذا كان صعباً الاستحصال على قرار؟
5- لمَ لم يستهلّ لبنان من خلال هيئات الأمم المتحدة على أرضه تنسيقاً مع هيئات الأمم المتحدة في سوريا، متطلعاً إلى تزويده بتقدير موقف حول إمكانية العودة وأماكنها خصوصاً في مناطق تخفيض التصعيد، كما مرحلة عودة النازحين إليها مع ضمانات، وبحسب جداول بمعايير عملية؟
في كل هذه الأسئلة أستذكر رجالات دولة من مثل الراحل الكبير غسان تويني في تجربة مع إصدار القرار 425 القاضي بإنسحاب العدو الإسرائيلي من لبنان عام 1978. تلك هي ديبلوماسية اليقظة الفاعلة.
وفي كل هذه الأسئلة أيضاً بحث في أين هي الديبلوماسيّة اللبنانية أيضاً من عودة اللاجئين الفلسطينيّين؟
رجاءً أخرجونا من سجالات شعبوية وتعبئة سياسويّة ولنعد إلى منطق الشرعية والدّولة!
خبير في شؤون اللاجئين الفلسطينيين والنازحين السوريين |