جاء الخطاب الذي ألقاه الرئيس الفلسطيني محمود عباس أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة (20/9) واضحاً وصريحاً، ربما أكثر من أي مرّة سابقة، بخاصة في حديثه عن خمس مسائل مهمة أو رئيسية:
أولاها، إمكان سحب الاعتراف الفلسطيني بإسرائيل، فهذه لم تعترف بحق الفلسطينيين في دولة، بل إنها عملت على قضم هذه الحق بالاستيطان في الضفة، مكرّسة الاحتلال، فضلاً عن أنها دولة لم تحدّد حدودها، على رغم أن الفلسطينيين يعرفون حدود دولتهم المفترضة في الأراضي المحتلة (1967)، مع تذكيره أن إسرائيل قامت على جزء من الأراضي التي كان المجتمع الدولي قرّرها للفلسطينيين بموجب القرار 181 (1947)، علماً أن هذا الجزء يساوي 22 في المئة من أرض فلسطين أي نحو ضعف المساحة الحالية للضفة والقطاع.
وثانيتها، التلويح بالتخلّي عن كيان السلطة وتسليم مفاتيحه لإسرائيل، لوضعها أمام مسؤولياتها إزاء الفلسطينيين، بموجب القانون الدولي، بوصفها دولة احتلال، أي بالكف عن الاشتغال كسلطة تحت الاحتلال، أو بمثابة سلطة وكيلة له.
وثالثتها، تهديده بالتحول من خيار الدولة المستقلة (في الضفة والقطاع) إلى خيار الدولة الواحدة في كامل أرض فلسطين التاريخية، بحيث يتركز الكفاح على إقامة دولة حقوق لمواطنين متساوين، لليهود والعرب، أي التحول من الصراع على الأرض إلى الصراع على الحقوق، والتحول من الصراع على جزء من أرض إلى الصراع على كامل الأرض.
ورابعتها، تأكيده اعتماد نهج المقاومة الشعبية - السلمية في مواجهة إسرائيل لاستعادة حقوق الفلسطينيين، في قطع مع الأشكال الأخرى التي استهلكت، والتي كانت طبعت الكفاح الفلسطيني بطابعها طوال نصف القرن الماضي.
وخامستها، تشديده على عقد نوع من مقاربة بين نظام التمييز العنصري («الأبارثايد»)، في دولة جنوب أفريقيا سابقاً وإسرائيل الاستعمارية العنصرية، مع تحميله المجتمع الدولي مسؤولية ذلك، ومسؤولية عدم إنفاذ القرارات المنصفة لشعب فلسطين منذ سبعة عقود.
بيد أن هذا الخطاب، على أهمية تلك المسائل، ينطوي على ملاحظات كثيرة، أهمها:
أولاً، أنه يأتي بعد 24 سنة على عقد اتفاق أوسلو (1993)، علماً أن مفردات وقضايا كثيرة له، تكرّرت على لسان الرئيس، وغيره من المسؤولين الفلسطينيين، في أكثر من مناسبة، وضمن ذلك في منصّة الجمعية العامة، في الأعوام الماضية، مع التذكير بأن الرئيس نفسه تحدث قبل سنوات عن إمكان التحول نحو انتهاج خيارات أخرى، بسبب سدّ إسرائيل الأفق أمام قيام دولة فلسطينية، من دون أن يتم تفعيل ذلك، الأمر الذي يضرّ بصدقية أي كلام إن لم تجر دراسته، وإن لم تجر عملية اقترانه بالممارسة، على الصعد والمستويات كافة.
ثانياً، في الحقيقة لا شيء يفيد بأن القيادة الفلسطينية حاسمة في موقفها في شأن إدخال تغييرات على طريقها السياسي، أو خياراتها المعتمدة، من الناحية الفعلية، أي إذا تجاوزنا المشاعر الذاتية والتصريحات النظرية. هكذا، فلا شيء يدلّ على أنها هيّأت أوضاعها، وبناها، وشعبها، لخيار التخلّي عن السلطة، وتسليم المفاتيح لإسرائيل، مثلاً، ولا حتى لخيار تغيير وظائف هذه السلطة، وحصرها بإدارة شؤون المجتمع الفلسطيني وتعزيز كياناته ومؤسساته، باعتبار ذلك جزءاً من عملية المقاومة ضد الاحتلال، وهذا هو الأجدى والأنسب والأكثر تعبيراً عن المسؤولية في مواجهة إسرائيل، التي تريد حقاً أن تتخلص من ورطة إقامة كيان للفلسطينيين، ولو في جزء من أرضهم. هذا مع ملاحظتنا أن الكيان الفلسطيني القائم مثقل أو مقيّد بعلاقات الارتهان والتبعية لإسرائيل، من النواحي الاقتصادية والإدارية والأمنية، ومن دون وضع استراتيجية لتخفيف هذه القيود وتالياً التحرر منها ستبقى هذه الحال.
ثالثاً، إن أي إجراء أو تحول في السياسة الفلسطينية، أو أي تغيير في الخيارات الوطنية المعتمدة، يتطلب طرحه على النقاش والفحص بين الفلسطينيين، وضمنه في إطارات المنظمة والسلطة والفصائل، قبل الإعلان عن ذلك في الأمم المتحدة، أو في أي محفل خارجي، لتبيّن احتمالاته والتحديات التي يطرحها والتداعيات التي قد تنجم عنه. فوق ذلك، يفترض بأي تحول التمهيد له، وترجمته، بممارسات سياسية ملموسة وواضحة، تفيد بتعزيز الثقة بين الفلسطينيين وقياداتهم السياسية، وتطوير كياناتهم الجمعية (المنظمة والسلطة والفصائل والمؤسسات والمنظمات الشعبية)، وتخليصها من حال الجمود والترهّل التي همّشتها، وقلّلت من دورها، وتركيز طابعها الوطني والمؤسسي والتمثيلي والديموقراطي. الفكرة أن القيادة لم تعمل حتى الآن في هذا الاتجاه، والأرجح أن المتنفذين فيها غير جاهزين لأي تغيير. والمعنى أنه بدلاً من الحديث عن تسليم السلطة لإسرائيل، يفترض صوغ استراتيجية تعطي الشعبَ الفلسطينيَ المفاتيحَ، بتمكين مؤسساته وتعزيز كياناته، بدلاً من شلّها أو إضعاف فاعليتها.
رابعاً، ذكّر الرئيس العالم في خطابه بالقرار 181، القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين واحدة لليهود والثانية للعرب (الفلسطينيين)، علماً أن القرار نصّ أيضاً على قيام اتحاد اقتصادي بين الدولتين، ووضع القدس في مكانة دولية، ومنح الدولة المخصّصة لليهود 55 في المئة من أرض فلسطين فقط (ما ركّز الرئيس عليه في خطابه، في شأن استيلاء إسرائيل على نحو 22 في المئة من أرض فلسطين فوق حصتها في القرار الدولي). على ذلك، فإن القيادة التي وقعت اتفاق أوسلو تتحمل المسؤولية عن عدم الاستثمار في هذا القرار، بمختلف حيثياته، والتركيز فقط على الأرض المحتلة (1967)، وترك الأمر لنحو ربع قرن لإعادة طرحه، كما المسؤولية عن مختلف الجوانب التي أدت إلى تلاعب إسرائيل باتفاق أوسلو (1993)، وضمن ذلك عدم البت بمسألة وقف الاستيطان في الأراضي المحتلة، ومصير القدس واللاجئين، وتحديد حدود إسرائيل، ومآلات الحل النهائي.
خامساً، لوح الرئيس في خطابه بالمبادرة العربية للسلام (قمة بيروت 2002)، كأنه في ذلك لا يستنبط الدروس من رفض إسرائيل المبادرة وقتذاك، في ظروف كانت أصعب عليها من الآن. أيضاً، فإن هذا الطرح في الظروف الحالية يبين، ربما، تجاهل القيادة الواقعَ الناشئ في الإقليم، وفي مكانة إسرائيل، إذ مع تصدع البنى الدولتية والمجتمعية في المشرق العربي، لا سيما في العراق وسورية، واختفاء الجبهة الشرقية، وظهور خطر إيران، فإن إسرائيل أضحت في وضع أكثر أماناً من قبل، أي لم تعد في حاجة إلى تقديم أي «أثمان» للسلام، فضلاً عن أن الظروف أدت إلى تأكّل مكانة القضية الفلسطينية، ما يعني أن تطبيع إسرائيل علاقاتها مع أي دولة لم يعد يحتاج إلى طرف فلسطيني، ولا إلى أي تقديمات إسرائيلية للفلسطينيين؛ ما يجدر أخذه في الاعتبار بدلاً من تكرار الحديث عن أهمية التسوية الفلسطينية لإسرائيل في عملية التطبيع، لأن هذا مضر وغير مجدٍ للفلسطينيين.
سادساً، طرح الرئيس في خطابه فكرة التحول نحو حل الدولة الواحدة، بعد إغلاق حل الدولتين من قبل إسرائيل، أي أن هذا الطرح جاء بسبب اليأس، وفي سياق التهديد، أي أنه في الحالين لم يأت نتيجة رؤية واضحة لمتطلبات الكفاح ضد إسرائيل، أو في سياق الإجابة عن الأسئلة التي تطرحها مختلف جوانب القضية الفلسطينية، مع دولة في الضفة والقطاع أو من دون ذلك. ومعلوم أن «فتح»، ومنظمة التحرير، كانت طرحت خياراً كهذا في بداياتهما (أواخر الستينات)، إلا أن هذا الخيار تم النكوص عنه، بدل تطويره، وذلك لمصلحة خيار إقامة دولة مستقلة في الأراضي التي احتلت عام 1967. والمشكلة هنا، أيضاً، أن هذا الطرح يضع هدف الدولة الواحدة مقابل هدف الدولة في الضفة والقطاع، وبالعكس، في حين المسألة لا تحتاج إلى ذلك، إذ إن إقامة دولة في جزء من الأرض لا يحل مختلف جوانب القضية الفلسطينية، لا سيما قضية اللاجئين، ولا يفيد بكيفية التعاطي مع إسرائيل بطابعها كدولة استعمارية وعنصرية ودينية (يهودية) في المنطقة. والقصد أن حل الدولة الواحدة، ومن دون وضعه للابتزاز، أو طرحه نتيجة الإحباط، أو التلويح به كبديل لحل الدولة الفلسطينية المستقلة، يمكن أن يشكّل إغناء للخيارات الفلسطينية، بدل حصرها في خيار وحيد وهو خيار الاستقلال في دولة في الضفة والقطاع، من دون وضع المسألة كهدف مقابل هدف، أو كخيار بديل لخيار آخر. ثم إن حل الدولة الواحدة يجيب على مسائل الصراع كافة، الفلسطينية - الإسرائيلية، للفلسطينيين واليهود، في دولة مواطنين أحرار ومتساوين ديموقراطية، وبالتحول من مجرد الصراع على الأرض والسيادة إلى الصراع على الحقوق، والأهم أن هذه لغة يفهمها ويقبلها العالم، وهذا ما يتناسب مع قيمتي الحقيقة والعدالة.
على أي حال، يفترض أن ننتظر وعد الرئيس بخصوص إجراء مراجعة استراتيجية فلسطينية في الاجتماع المقبل للمجلس الوطني الذي يفترض قبل ذلك إعداده والتوافق عليه وطرح قضاياه على النقاش العام. * كاتب فلسطيني |