التاريخ: كانون الأول ٢٣, ٢٠١٠
 
المشهد الانتخابي العربي خلال عام 2010: سقوط الموالين وخسارة المعارضين

الخميس, 23 ديسيمبر 2010
رغيد الصلح *


نظمت مبادرة التنمية البرلمانية في المنطقة العربية التابعة لبرنامج الأمم المتحدة للتنمية ورشة عمل مهمة في العاصمة المغربية الرباط حول العمل البرلماني العربي وحول تفعيل الدور الرقابي للبرلمانات العربية بصورة خاصة. في هذه الورشة لاحظ مشاركون ومشاركات ان الرقابة البرلمانية في المنطقة لا تزال حتى الآن طفلاً يحبو. وبيّن هؤلاء، واكثرهم من النواب الاعضاء في البرلمانات العربية، انه بينما يربو عدد الأدوات والوسائل التي تذكرها الدساتير العامة واللوائح الداخلية البرلمانية عن العشرة، مثل توجيه الاسئلة والاستجوابات وتشكيل لجان تقصي الحقائق وتبني العرائض والشكاوى وطرح الثقة بالحكومة، فان البرلمانيين العرب قلّ ان استخدموا ما زاد عن الاثنين أو الثلاثة منها.


وما يلفت النظر هنا ليس فقط محدودية الادوات التي استخدمها البرلمانيون العرب في علاقتهم مع الحكومات فحسب، وانما ايضا طبيعة هذه الادوات ومغزى الاقتصار عليها من دون غيرها من الادوات. فلئن شبهنا هذه الادوات العشر بدرجات السلم الذي يصعد عليه النواب فيما هم يراقبون الحكومة ويحاسبونها على ادائها، لوحظ ان الأداتين اللتين أكثروا من استخدامهما هما توجيه الاسئلة والاستجوابات اليها فحسب. وهاتان الأداتان هما من الأدوات الاقل ازعاجاً للحكومات ولأرباب السلطات التنفيذية في البلاد العربية بالمقارنة مع ادوات رقابية اخرى لا تنطوي على مساءلة للحكومة فحسب، وانما ايضا على معاقبتها على تقصيرها مثل سحب الثقة بالحكومة.


وما تنبغي الاشارة اليه هو ان ورشة العمل هذه عقدت خلال شهر حزيران (يونيو) الماضي، ومن ثم فإن الاستنتاجات والتوقعات والتوصيات التي صدرت عنها بنيت على ما سبقها، أي ما سبق موعد انعقادها من احداث وتجارب برلمانية عربية، وان هذه التوقعات والتوصيات وان طبعت بالتفاؤل الا انه كان تفاؤلاً حذراً، فهل كان هذا الحذر في محله؟ هل جاءت التطورات البرلمانية اللاحقة، او بالاحرى الانتخابات البرلمانية التي جرت في البلاد العربية منذ شهر حزيران (يونيو) وحتى يومنا هذا، لكي تخفف من حذر دعاة الاصلاح البرلماني ومخاوفهم تجاه الاوضاع الراهنة في المنطقة؟
في سعينا الى الاجابة على هذا السؤال، فانه حري بنا ان نأخذ بعين الاعتبار العلاقة المثلثة والوثيقة بين الديموقراطية والبرلمانات وتمثيل المعارضة داخلها. ذلك انه رغم الاشكاليات الكثيرة التي تحيط بالانظمة البرلمانية كمعبّر عن ارادة المواطنين وكوسيلة لمشاركتهم في الحياة العامة، ورغم الانتقادات التي يوجهها مؤيدو الديموقراطية المباشرة الى الديموقراطية البرلمانية، رغم ذلك فان التجارب الانسانية، ومنذ ان بلور المفكر والسياسي الفرنسي دارجنسون عام 1754 فكرة البرلمان كـ «حارس ومفعّل» للديموقراطية، لم توفر حتى الآن افضل من هذه المؤسسة المنتخبة.


وبمقدار ما يمكن اعتبار دور البرلمان وحيويته وأثره في الحياة العامة مؤشراً على الحياة الديموقراطية، بهذا المقدار يعتبر دور المعارضة وحضورها القوي في البرلمانات مؤشراً على تقدم الديموقراطية ونمو الحياة البرلمانية. على هذا الاساس يرى بريجورسكي وستوكز ومانين في كتابهم «الديموقراطية، المحاسبة والتمثيل الشعبي» ان الانتخابات ليست وسيلة لاختيار الحكام فحسب، وانما لاختيار المعارضة ايضا ولتحفيزها على الاضطلاع بدورها البناء. وعلى هذا الاساس ايضا كرست التقاليد البرلمانية في ديموقراطيات متقدمة دور «حكومات الظل»، كما كرست ايضا وبموافقة احزاب الاكثرية الحاكمة اعطاء منصب رئاسة غالبية لجان المجلس النيابي وبخاصة الحساسة منها مثل لجنة المال الى المعارضة.


اذا استثنينا الانتخابات في البحرين التي سجل فيها احد احزاب المعارضة نصراً انتخابياً كبيراً، فان الانتخابات التي أُجريت في الدول العربية الاخرى خلال السنة الحالية جاءت في مسار معاكس للتطور الديموقراطي والبرلماني في المنطقة. ورغم ان النخب الحاكمة ارادت هذه الانتخابات كمناسبة لإسباغ المشروعية السياسية على نظامها السياسي، الا ان حماس هذه النخب لتحقيق هذه الغاية لم يكن عميقاً وقوياً كفاية. اي انه لم يكن قوياً كفاية لكي تحترم هذه النخب قوانين اللعبة الانتخابية بما في ذلك الابتعاد عن التدخل في سيرها وفي تشكيل اللوائح الانتخابية وانحياز الاعلام الرسمي الى مؤيدي الحكم القائم ومرشحيه في الانتخابات، هذا ناهيك عن التدخل السافر بالضغط على الناخبين وتهديدهم بالاجراءات العقابية اذا لم يؤيدوا مرشحي الحكومة واعتقال مرشحي المعارضة او منعهم من دخول حلبة المنافسة الانتخابية وتزوير الاصوات وما الى ذلك من اشكال هندسة الانتخابات ونتائجها وصولاً الى اقصاء المعارضين. ولقد فاقت رغبة الحكومات في تحقيق هذا الهدف الاخير واضعاف المعارضات وتهميشها وحرمانها من الفرص السياسية، كل رغبة اخرى بما في ذلك رغبتها في اكتساب الصدقية الديموقراطية.


ولا بد من الاشارة هنا الى ان السعي الى تهميش المعارضة واضعافها لم يبرز خلال الانتخابات فحسب، بل برز ايضا بعدها، كما حدث في العراق عندما ظهرت نتيجة الانتخابات فأعطت العدد الاكبر من المقاعد النيابية الى قائمة «العراقية»، وهي الاقرب الى التعبير عن اتجاهات معارضي الحكومة ومعارضي الاحتلال الاميركي. بذلك كان من المفروض تطبيق مبدأ تداول السلطة وتكليف اياد علاوي زعيم التكتل الفائز، كما يقول الدستور العراقي والقواعد الديموقراطية، بتشكيل الحكومة الجديدة. ولكن جرى تعطيل واضح للعملية الديموقراطية عندما رفض نوري المالكي الجلاء عن كرسي رئاسة الحكومة وعمل بكل وسيلة على اضعاف المعارضين وحرمانهم من ثمار الانتصار الناخبي الذي احرزوه.


لقد نجح القابضون على السلطة في الدول العربية المعنية في حرمان المعارضات من تسجيل انتصارات سياسية حاسمة، فهل يحقق هذا النجاح أي تقدم على صعيد التحول الديموقراطي في المنطقة؟ اكثر ردود الفعل على الانتخابات العربية تؤكد العكس، اي ان الانتخابات التي أُجريت عام 2010 ستعرقل التطور الديموقراطي. ولئن ركزت ردود الفعل والتقارير هذه على الآثار المباشرة للانتخابات، فمن الضروري الا يهمل المرء آثارها البعيدة المدى.


من أهم هذه الآثار سد الطريق، ولو خلال المستقبل المنظور، امام تطور الحياة البرلمانية العربية. ذلك ان اقصاء او تهميش المعارضات العربية البرلمانية سيؤدي، حكماً، الى اضعاف دور البرلمانات الرقابي ومن ثم التمثيلي. فعندما يسيطر انصار الحكومات العربية على المجالس النيابية سيطرة كاملة ستتحول هذه المجالس الى منابر للدعاية للحكومة وللترويج لبرامجها ومشاريعها. وعندما يقوم النواب الموالون للحكومات بهذا الدور فلن يكون في ذلك أي خلل بل هو تعبير عن التزامهم السياسي بالحزب او الكتلة التي انتموا اليها.


الخلل الكبير سيكون في غياب ممثلي الفئات الشعبية المتضررة من سياسات الحكومة، وغياب الذين يعبرون عن مصالح ومشاعر هذه الفئات عن المنابر البرلمانية. عندها ستتلاشى الرقابة البرلمانية وترتاح الحكومة من انتقادات النواب. وفي غياب الرقابة البرلمانية يسهل الاستهتار بقواعد الحكم الراشد والاستجابة الى مغريات الفساد والتراجع في اداء الادارات الرسمية. اكثر من ذلك، نستطيع القول ان تغييب صوت المعارضة عن البرلمان سيؤدي الى تراجع على الصعيد العام وليس فقط على مستوى اداء البرلمان فحسب. المثل الحي على ذلك هو الاثر الذي تركه فوز «الاخوان المسلمين» بعشرين بالمئة من مقاعد البرلمان المصري في الدورة الانتخابية السابقة. هذا النجاح كان من الاسباب المهمة التي دعت حزب المؤتمر الوطني الى تطوير ادائه على كل صعيد. اما وقد تلاشى هذا الحافز، فاننا لن نستغرب ان يهمل الحزب المصري الحاكم عملية التطوير هذه وان يتراجع تأثير الذين حاولوا تطويره وعصرنته. اخذاً بعين الاعتبار هذا المثال، فإن اكثر الانتخابات النيابية التي أُجريت في الدول العربية على امتداد هذا العام ادت الى سقوط الخاسرين والفائزين معا. بل قد تكون خسارة الفائزين فيها اكبر بكثير من خسارة المعارضين.

* كاتب لبناني