لا يلقى استفتـــاء الأكراد قبولاً في المنطقة والعالم. الجميع تقريباً رفضوه. إيران وتركيا الأعلى صوتاً ضده في المنطقة. القوى الدولية الكبرى أجمعت على رفض إجرائه كل بطريقتها. تزعمت الولايات المتحدة، المتهمة دوما بأنها تتآمر لتقسيم العراق، حملة الرفض، وضغطت سعياً لإلغاء الاستفتاء. تطابق موقفها مع الذين يؤكدون في كل مناسبة، ومن دون مناسبة، أن تقسيم العراق هدف أميركي، وجزء من مؤامرة تستهدفنا.
لا يجيب رافضو الاستفتاء عن سؤالين محوريين: أولهما ما إذا كان العراق مُوّحداً حقاً. والثاني عن الوزن النسبي لكل من الواقع المُر المثقل بمآسي الماضي، والحلم التاريخي بإقامة دولة كردية مستقلة، في تفسير تفضيل معظم الأكراد انفصالاً تزيد مغارمه كثيراً عن منافعه.
السؤال الأول يبدو أسهل. العراق دولة واحدة رسمياً، ونظامها اتحادي «فيديرالي» دستورياً. لكن الواقع ينطق بأنه مُفكَّك جغرافياً وسياسياً واجتماعياً وثقافياً، وأن العلاقة بين مركزه في بغداد وبعض أقاليمه تقترب من الصيغة التعاهدية (الكونفيدرالية) التي تتيح أوسع استقلال ذاتي، فيما يحظى إقليم كردستان باستقلال شبه كامل يتجاوز هذه الصيغة.
حضور السلطة المركزية في معظم الأقاليم بين متوسط وضعيف ومعدوم سياسياً واقتصادياً. الميليشيات المذهبية التي تسند قوتها العسكرية النظامية لا تساعد في دعم حضورها، بل تخلق ضغائن وأحقاداً تزيد هذه السلطة ضعفاً على المستويين السياسي والاجتماعي.
وبخلاف السؤال عما إذا كان العراق مُوحّداً، يبدو سؤال الوزن النسبي للواقع والحلم صعباً. يتعذر منهجياً قياس أثر الأحلام في الواقع، لكن معظم الحالات التي أُثير فيها جدل حول انفصال إقليم عن دولة، أو حدث فيها هذا الانفصال فعلياً، في العقود الثلاثة الأخيرة، تفيد بأن الإنسان يُفضل الحفاظ على واقع يشارك في تحديد معالمه، وإدارة شؤونه، ويتمتع فيه بحياة كريمة، حتى إذا كان لديه حلم أكبر.
ويدل بعض هذه التجارب على أن الغالبية لا تسير وراء حلم انفصالي ما دام الواقع مقبولاً، ولا تغامر بما لديها من أجل ما لا تملك يقيناً بأنه سيكون أفضل. ولذا رفضت الغالبية في كيبك الانفصال عن كندا مرتين في 1980 و1995، وكذلك فعلت الغالبية في اسكتلندا في استفتاء الانفصال عن المملكة المتحدة في 2014. والأرجح أن تكون نتيجة الاستفتاء على انفصال كاتالونيا عن إسبانيا مشابهة إذا أُجري في الموعد الذي تصر عليه حكومة الإقليم مطلع الشهر المقبل.
أما الحالات التي وافقت فيها غالبية سكان إقليم على الانفصال فهي التي كانت مرارة الواقع فيها أقوى من حلاوة أي حلم، سواء بسبب حرب أهلية طاحنة في السودان انتهت بانفصال جنوبه، أو بفعل تطهير عرقي شديد أدى إلى تأييد أكثر من 90 في المئة من سكان كوسوفا الانفصال عن صربيا في 1999، أو نتيجة تهميش واضطهاد دفعا الإريتريين إلى تمرد مسلح فرضوا في نهايته إجراء استفتاء وافق فيه أكثر من 95 في المئة على الانفصال عن إثيوبيا.
وفي كل هذه الحالات لا يتحمل الإقليم المنفصل المسؤولية الأولى عن الانفصال، بل السلطة المركزية بسياساتها وممارساتها. وحالة أكراد العراق ليست مختلفة. وما الاستفتاء الذي أصروا عليه، وهم يعلمون أنهم لن يتمكنوا من الانفصال فعلياً في المدى المنظور، إلا نتيجة لمقدمات طويلة قادت إليه.
لم يأت هذا الاستفتاء من فراغ. وليس إصرار الأكراد على إجرائه إلا هرباً من واقع يؤلمهم، وسعياً إلى تضميد جروح أصابتهم عقوداً طويلة.
ولذا، وعلى رغم أنه يصعب منهجياً قياس الوزن النسبي لواقع الأكراد وحلمهم، ثمة ملاحظتان تفيدان في إجراء هذا القياس تقريبياً. الأولى أن الأحلام القومية ليست خالدة، أو مستعصية على الزمن، ولا هي مصبوبة في قوالب جامدة يستحيل الخروج منها مهما تقادمت وفعل الزمن فعله فيها. والثانية أنه ليس صعباً قياس مدى قوة أثر الواقع عبر طرح السؤال التالي: هل تفضّل جماعة إثنية ما تعاني قهراً وتمييزاً، الانفصال إذا توافرت لها الفرصة في غياب حلم إقامة دولة مستقلة؟
الجواب نعم، ليس لأن هذا رد فعل طبيعي فقط، ولكن لأن الحالات التي انفصلت فيها أقاليم لم تكن لديها أحلام قومية تؤكده. الواقع، إذاً، أكثر إنباءً بدوافع الانفصال مقارنة بأي حلم. وهذه حال أكراد العراق الذين يفضل أكثرهم الانفصال بفعل المرارات التي تراكمت منذ بدأت تجربتهم مع حزب البعث. كانت تجربتهم تلك أكثر مرارة من تجربة أحد أبرز قادة الحزب (منيف الرزاز) معه، والتي سجلها في كتابه «التجربة المُرة» (1966).
منح البعث الأكراد حكماً ذاتياً في بداية حكمه (1970) لكي يتفرغ لاستئصال المعارضة في بقية أنحاء البلاد، ثم انقض عليهم عندما فرغ من غيرهم، واستخدم ما في جعبته لفرض هيمنته عليهم، بما فيها الإبادة العرقية في حملة الأنفال، والغازات السامة في مذبحة حلبجة، في 1988.
وفيما أتاح فرض حظر جوي فوق إقليم كردستان، عقب حرب تحرير الكويت، حماية للأكراد من طغيان سلطة باطشة، فإنه كرَّس الشعور في أوساطهم بأن انفصالهم خير من بقائهم في كيان يفتقدون فيه المساواة والكرامة والحرية والعدل.
وبعدما أعاد إسقاط نظام صدام حسين إليهم الأمل بإمكان بناء دولة يتوافر لهم فيها ما افتقدوه، تعذر تحقيق مصالحة تاريخية بعد انفلات التطرف المذهبي والسياسي من عقاله.
وهذا هو السياق الذي يصح أن نقرأ فيه دلالة الاستفتاء. قد لا يكون هذا هو الوقت المناسب لإجرائه. وربما أرادت قيادة إقليم كردستان الهروب إلى الأمام وتغطية أزمة في داخل الإقليم بدل السعي إلى حلها. غير أن الأكراد ليسوا هم من يقسّمون العراق، بل القابضون على السلطة في بغداد حين يُبدّدون فرصة قد تكون أخيرة لتوحيده عبر معالجة اختلالات هائلة أدت إلى انفصال شعوري بين فئاته الاجتماعية، وفي داخل معظم هذه الفئات، وليس عن طريق تنظيم الحملات لإدانة استفتاء يُعد أحد تداعيات تلك الاختلالات.
ثمة فرصة أخيرة، والطريق إلى الإمساك بها معروفة لمن يرغب. إنها طريق بناء دولة وطنية تقوم على المواطنة الحقة، ويكون العراقيون جميعهم مواطنين أحراراً فيها. |