لا مصلحة، الآن، لأي من القوى المنخرطة في حرب سورية بقيام تسوية حقيقية في هذا البلد. ولذلك تبدو صيغة مناطق خفض التوتر مقبولة من تلك القوى حتى مدى غير منظور، إذ إنها تتيح لجميع الأطراف الخارجية المقاتلة موطىء قدم لها على الأرض السورية، التي ستتوزع إلى مناطق نفوذ أمني وسياسي واقتصادي.
يقود إلى الجزم بصعوبة التسوية، بل واستحالتها، حجم الأثمان المترتبة عليها. وهي أثمان سيدفعها نظام الأسد نفسه مثلما ستطلب من الأطراف الآخرين الذين يقاتلون إلى جانبه، ووفروا له حتى اليوم إمكانية الصمود والبقاء، بل واستعادة السيطرة على إجزاء واسعة من أراضي الدولة المنكوبة.
ولنا أن نتخيل ماذا يمكن أن يحصل في حال التوصل إلى اتفاق حول صيغة مستقبلية للحكم في سورية. فالاتفاق يعني قبولاً من أكثرية السوريين بطريقة إدارة دولتهم ومجتمعهم، والأكثرية تعني الأخذ في الاعتبار طبيعة التركيبة السكانية بطوائفها ومذاهبها وقومياتها، ما يقود إلى التفكير بتسوية على الطريقة اللبنانية. وليس عبثاً ترداد القول في الآونة الأخيرة بضرورة «طائف سوري» على غرار الطائف اللبناني، ينتج نظاماً يأخذ في الاعتبار التنوع القائم ولا يقوم على هيمنة فئة على أخرى.
لم يعد الوصول إلى تسوية من هذا النوع مرتبطاً بميزان القوى الداخلي ولا بطبيعة اصطفاف القوى السورية وأحجامها، فمثلما التهمت التنظيمات الإرهابية المتأسلمة المعارضة الشعبية وقدمت للنظام فرصة الاشتراك في الحملة العالمية ضد الإرهاب، بدا النظام ضعيفاً ومنهاراً قبل أن تتدخل روسيا في صيف 2015 لإنقاذه، وهو من دون روسيا وإيران وتنظيماتها لم يكن قادراً على البقاء فكيف بتحقيق الانتصارات. نحن الآن أمام معارضة شعبية سورية مشروعة لكن بلا أنياب، وفي مقابلها سلطة تفرض وجودها بأنياب الخارج، وبديهي أن الحوار بين الطرفين ليس سوى ظلاً لحوار يجري في مكان آخر وبين قوى أخرى، نتيجته حتى الساعة ما نشهده من اتفاقات تقسّم سورية إلى مناطق نفوذ تحت مسمى «مناطق خفض التصعيد».
هذه الصيغة ليست حلاً، وهي إشارة إلى أن الحل الفعلي لم ينضج بعد. إنها صيغة تحفظ مواقع القوى الخارجية الفاعلة في سورية لكنها لا توفر استعادة الشعب السوري سيادته في بلده. لأنه عندما تستعاد تلك السيادة سيطرح وجود القوى الخارجية جميعاً على بساط البحث، وسيكون صعباً تصوّر استمرار الحضور الإيراني وسيطرح مصير الوجود الروسي في طرطوس، القاعدة البحرية الروسية الوحيدة خارج روسيا، وستنتهي حكماً خدمات حزب الله وغيره من التنظيمات الباكستانية والأفغانية والعراقية المرتبطة بإيران التي دعمت الأسد وقاتلت «لحماية المراقد».
تبدو اتفاقات آستانة محطة لتنظيم إدارة الأراضي مثلما تتولى حميميم إدارة الأجواء، في انتظار حل سياسي يحتاج إلى جهود ونوايا غير متوافرة لدى النظام وداعميه. وكان ملفتاً اجتماع نيويورك، الذي عقد بدعوة من الولايات المتحدة، عشية بدء اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وخلص إلى موقف غربي – عربي موحّد يدعو إلى تفاوض من أجل انتقال سياسي في سورية، وحذّر من أن الأسرة الدولية لن تعترف بنظام الأسد أو تقوم بتمويل إعادة إعمار البلد من دون تحديد خطة تؤدي إلى تسوية.
لم تمانع الدول المجتمعة في نيويورك وبينها فرنسا وبريطانيا ودول أطلسية وعربية، تطبيق اتفاقات مناطق وقف التصعيد المقرّة في آستانة، إلا أنها في هذا الاجتماع أعادت التأكيد على المنطلقات التي أقرّتها الأمم المتحدة ومجلس الأمن كأساس للتسوية في سورية، ما يضع الروس الذين يتحملون عبء تمثيل مصالح الأسد ويطمحون إلى دور دائم في سورية، أمام مسؤولية الانتقال خطوة أخرى إلى الأمام وملاقاة أميركا وحلفائها في منتصف الطريق والولوج في الحل الشامل. إلا أن دون الحركة الروسية هذه عقبات كبرى، أولها ردّ الفعل الإيراني، وثانيها الموقف الإسرائيلي، وبين هذين الحدّين على روسيا أن ترسم معالم المرحلة السورية المقبلة. |