التاريخ: أيلول ١٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الاستقواء بالجيش لخوض معركة الشغور الرئاسي في الجزائر - توفيق المديني
تعيش الجزائر في هذه الفترة على وقع إثارة قوى وشخصيات سياسية كثيرة شكوكاً حول أهلية الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة لقيادة الدولة الجزائرية، إذ طالبت أحزاب وشخصيات سياسية وتنظيمات مدنية، كحزب «جيل جديد»، و «طلائع الحريات»، ووزير التجارة السابق نور الدين بوكروح والكاتب الإعلامي أحميدة العياشي، في الفترة الأخيرة، المؤسسة العسكرية الجزائرية بالتدخل لتفعيل مطلب تطبيق بند المادة 102 من الدستور والتي تنص صراحة على أنه: «إذا استحال على رئيس الجمهوريّة أن يمارس مهماته بسبب مرض خطير ومزمن، يجتمع المجلس الدّستوريّ وجوباً، وبعد أن يتثبّت من حقيقة هذا المانع بكلّ الوسائل الملائمة، يقترح بالإجماع على البرلمان التّصريح بثبوت المانع»، بسبب غياب الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة عن المشهد السياسي في البلاد، وإنهاء ما يعتبرونه حالة «انهيار الدولة»، وتلاعب محيط الرئيس بوتفليقة بمؤسسات الدولة وتداخل العلاقات الوظيفية وهيمنة رجال المال والنفوذ وتغولهم، في أعقاب التطورات الدراماتيكية التي شهدتها الجزائر في الفترة الأخيرة، بخاصة عقب إقالة رئيس الحكومة السابق عبدالمجيد تبون وثلاثة من الوزراء، واستخلافه برئيس الديوان الرئاسي أحمد أويحيى.

وقد ردّت قيادة الجيش الجزائري بلهجة حادة على هذه المطالبات، من خلال نشرها افتتاحية «مجلة الجيش» الناطقة الرسمية باسم الجيش في عددها شهر أيلول (سبتمبر) الجاري بإيضاحٍ لمن يطالبون بانقلاب عسكري وجاء فيها: «لكل من يطالب، سرّاً أو جهراً أو ضمنياً بالانقلابات العسكرية، نذكر بأن جيشنا سيضل جيشاً جمهورياً ملتزماً الدفاع عن السيادة الوطنية وحرمة التراب الوطني، حافظاً للاستقلال، جيشاً لا يَحِيدُ أبداً عن القيام بمهماته الدستورية مهما كانت الظروف والأحوال». وهاجمت المجلة من وصفتهم بـ «الأقلام المأجورة»، التي «خاضت في كل المواضيع والاختصاصات، من الشريعة إلى التاريخ مروراً بعلم الفلك والسياسة والاقتصاد وغيرها من المعارف والعلوم، وعندما أخفقت وفشلت تيقنت من عجز فكرها ومحدودية تأثيرها عرجت على مؤسسة الجيش، معتقدة أنه بتلفيق التهم وتزوير الحقائق...، سيفرش أمامها البساط الأحمر، وسيصطف الشعب يهلل ويصفق وسيصنفها في خانة الأبطال والصالحين».

فالرئيس بوتفليقة الذي وصل إلى رئاسة الدولة في أكتوبر سنة 1999 بوساطة العسكر– الانتخابات الشعبية كانت شكلية – بدأ منذ الأسابيع الأولى لتوليه رئاسة الجزائر في فتح بعض الملفات المقفلة. فكانت تجربة التعايش بين الرئيس الجديد و«المقررين» داخل الجيش، يشوبها التوتر، بسبب تنازع الصلاحيات، فترة ولايته الأولى بين عامي 1999 و2004. بيد أنه منذ إعادة انتخابه في 8 نيسان (أبريل) 2004، وحصوله على «الشرعية الشعبية»، دقت ساعة أفول المؤسسة العسكرية كصانعة للرؤساء في الجزائر. وتحرر الرئيس بوتفليقة ومعه الفريق الذي يعمل معه لا سيما يزيد زهروني وزير الداخلية السابق والرجل الثاني في المخابرات الجزائرية لفترة طويلة، من وصاية الجيش على مؤسسة الرئاسة، وقرر أن يكون الرجل القوي في الولاية الرئاسية الثانية عبر إمساكه بيديه القرار في الجزائر، وإعادة صياغة الحياة السياسية في هذا البلد عبر تغيير المعادلات والموازين في القوى السياسية، بما يدعم مؤسسة الرئاسة على حساب المؤسسة العسكرية.

فبوتفليقة يمتلك رؤية سياسية مغايرة لرؤية «المقررين في الجيش» لاسيما حول موضوع السلم الأهلي والوئام الوطني. فهو يعتبر أن «سياسة الاستئصال» لم تعد ملائمة للمرحلة الجديدة التي دخلت فيها الجزائر، بعدما حجمت الجماعة الإسلامية المسلحة، وعادت الجبهة الإسلامية للإنقاذ إلى دائرة العمل السياسي السلمي، وأن سياسة «الوئام الوطني» التي لم تطبق في الماضي بشكل كامل، بات وضعها على سكة تطوير الاستقرار والتنمية في الجزائر أمراً ضرورياً.

وكانت أولى مفاجآت نتائج الاستحقاق الانتخابي في الجزائر تقديم الفريق محمد العماري رئيس أركان الجيش الجزائري يوم الإثنين 3 آب (أغسطس) 2004 استقالته رسمياً «لأسباب صحية»، إلى بوتفليقة، الذي يتولى حقيبة الدفاع أيضا. وجاء في إعلان بيان الرئاسة الجزائرية أن الرئيس قَبِل الاستقالة، وعين قائد القوات البرية اللواء صلاح قايد أحمد قائد خلفاً له، وهو يشغل الآن رئيس هيئة الأركان في الجيش الجزائري... وكان العماري ينتمي إلى مجموعة (الجانفيريست- الينايريين)، أي مجموعة الضباط الكبار في الجيش الجزائري الذين أرغموا الرئيس السابق الشاذلي بن جديد على الاستقالة عقب الفوز الكاسح للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعة في نهاية عام 1991 وإلغاء تلك الانتخابات أصلاً مع بداية عام 1992، تحت حجة «حماية النظام الجمهوري» من الانهيار، ومنع تسليم السلطة في الجزائر إلى الإسلاميين.

لقد أصبح الرئيس بوتفليقة مسيطراً بصورة كلية على المؤسسة العسكرية، وعلى إدارة السياسة الخارجية، وحتى المتحكم في توزيع الريوع النفطية، لكن هذا قد تم في إطار التسوية التاريخية مع المؤسسة العسكرية، التي تضمن لها بقاء امتيازاتها الاقتصادية والسياسية، وحتى القضائية، التى استمدت روحها من القوانين التي سنّها بوتفليقة للخروج بالجزائر من الحرب الأهلية الدامية التي تعرف في الذاكرة الوطنية بالعشرية السوداء.

ثم استكمل الرئيس بوتفليقة دائرة السيطرة على المؤسسة الأمنية، من خلال إقالة الجنرال توفيق مدين الرجل القوي في الجزائر (76سنة) في أيلول 2015، وهوالذي استلم رئاسة جهاز المخابرات العسكرية منذ 1990،وتعيين مكانه اللواء بشير طرطاق، وهو مستشارالرئيس للشؤون الأمنية على رأس المخابرات، تُعبِدُ الطريق بصورة جذرية أمام الرئيس والمقربين منه من أجل تنطيم خلافته بعد سيطرتهم في شكل كامل على الجيش والمخابرات. يمكن القول إنّ إقالة الجنرال توفيق لم تكن قراراً ارتجالياً، بل إنّها تدخل في سياق التغييرات الأخيرة التي شهدتها وتشهدها المؤسسة العسكرية، والتي تؤكد أمرين: الأول أنه أصبح لرئاسة الجمهورية اليد الطولى على كل مؤسسات الدولة، وأصبح بوتفليقة طليق اليد لينفذ السياسة التي يرتئيها للبلاد، والثاني أنه سيتم تسريع خلافة الرئيس، من دون أن يعني ذلك أن بوتفليقة يرشح شقيقه السعيد لخلافته، بل ربما أراد فقط أن «يضمن حماية أقاربه من أي تصفية حسابات» بعد رحيله.

وسبق أن أكد بوتفليقة في تموز (يوليو) 2016 أنه يتمنى أن ينهي ولايته الرابعة التي تستمر حتى 2019. وتأتي الآن مطالبة المعارضة الجزائرية بتدخل الجيش لإنقاذ الديموقراطية المتعثرة في الجزائر، متناقضة مع مضمون الديموقراطية عينها. وتبدو معركة المعارضة الجزائرية عبر الاستقواء بالجيش لعزل بوتفليقة معركة خاسرة، لأنها تعبر عن عجزها السياسي وفشلها التاريخي في أن تكون قوة ندية للسلطة الحاكمة، أولاً، ولأن الجيش لا يستطيع أن يكون أداة بيد المعارضة الفاشلة لخوض معاركها السياسية من أجل عزل بوتفليقة، ثم يعود إلى الثكنات العسكرية، بل لديه أيضاً طموحاته السلطوية ثانياً. ذلك أن الانقلاب العسكري للجيش الجزائري والديموقراطية يقفان على طرفي نقيض، وقد خبرتهما الجزائر في مناسبتين، الأولى انقلاب الرئيس الراحل بومدين في حزيران (يونيو) 1965، باسم «التصحيح الثوري»، والثاني، عقب الفوز التاريخي للجبهة الإسلامية للإنقاذ في الدورة الأولى من الانتخابات التشريعية في نهاية عام 1991، باسم وأد خطر الإسلاميين وإنقاذ الجمهورية.
 
 
* كاتب تونسي

السبت، ١٦ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش)