لا يعكس مفهوم المؤامرة نظرية علمية بقدر ما يعكس «عقدة حضارية»، ترتكز فعلاً على قرائن تاريخية وثقافية وسياسية تشي بالتحيز الاستراتيجي الغربي ضد العالم العربي، ولكن تم تأويلها، على نحو يخرجها من سياقها الموضوعي الى سياق آخر أسطوري، يستحيل معه الغرب «المسيحي» كائناً شيطانياً لا معنى لوجوده سوى التآمر ضد عالم الإسلام الواسع. إنه اعتقاد ساذج، ليس كاذباً تماماً، بل تبسيطي جداً، يعكس غياباً للعقلانية العملية عن المجال السياسي العربي، يوازي غياب العقلانية النظرية عن المجال الثقافي. وقد غابت الأخيرة بفعل غياب منهج التفكير العلمي القادر على أن يصبغ الظواهر برؤية منطقية متماسكة، قادرة على الانتشار أفقياً في كل أرجاء مجتمعاتنا، وكذلك على التغلغل رأسياً في روحها.
نعم توجد لدينا علوم تدرس كمحتوى، في بعض البؤر الأكاديمية هنا أو هناك، ولكن لا وجود للروح العلمية في عموم مجتمعاتنا، تلك الروح القادرة على أن تبث في من يمارسها ثوابت الدقة والتنظيم، حيث تنعكس المخرجات العلمية أو التطبيقات التكنولوجية على حياة الجماعة الإنسانية، وبالأحرى تصوغ بنيتها العامة، وهي العملية التاريخية التي أطلق عليها في السياق الغربي مسمى «التحديث»، والتي قادت الى بناء مجتمع جديد تحتل فيه التكنولوجيا وتطبيقاتها موقعاً مركزياً تكاد تبدأ منه وتتأثر به الأبنية المؤسسية والأنماط التنظيمية والهياكل الطبقية والأشكال الإدارية والتعبيرات السياسية، بل أغلب التيارات الفكرية والمدارس الفلسفية والمذاهب الأدبية والمناهج النقدية وغيرها مما يصوغ وعي الجماعة البشرية داخل ثقافة إنسانية في إطار متماسك ومتجانس لـ «كتلة مجتمعية تاريخية».
إزاء تغييب الروح العلمية بمقوماتها العقلانية والموضوعية عن الإنسان العربي، يتدنى استعداده للاعتبار بقيم كالجد والاجتهاد ومراكمة الخبرات المهنية والتدريبية واختزان الكفاءة والمهارة البحثية والتنظيمية، ثم تقنينها في مؤسسات وأبنية، تنشرها في المجتمع وتحفظها في الأجيال المتعاقبة دونما انقطاع كامل أو تقلب شديد على النحو الذي يخلق لدى هذا المجتمع نوعاً من الوعي يتسم بالتجانس والاستمرارية والقدرة على التكيف الهادئ والاستيعاب الآمن للمعارف ووجهات النظر والآراء الجديدة من دون تقلصات شديدة.
يتجذر الانفصام النكد بين مجتمعاتنا والروح العلمية في غياب مفهوم السببية عن الفلسفة العربية الوسيطة، واستمرار غيابها حتى الآن عن التيار الرئيس في الوعي العربي، تحت ضغط التيارات السلفية، واستسلام النظام التعليمي العربي، في عمومه، لمنطق تلقيني، يقوم على مقدمات صورية وعمليات استنباط منطقي، تستهلك نفسها بنفسها. يفضي هذا الغياب الى إلغاء العلاقة المباشرة بين العلة والمعلول ليس فقط على صعيد الظواهر الطبيعية بل أيضاً الظواهر الاجتماعية والإنسانية، حيث الأسباب الكامنة في هذه الأخيرة ليست هي المحركة لتفاعلاتها، ومن ثم يصعب اكتشاف منطق هذه التفاعلات وصياغته على نحو موضوعي وعقلاني بعد فحصها من داخلها. وقد أدى ذلك بدوره الى رسوخ المقوّم الميتافيزيقي في بنية العقل العربي، والى صياغة مزاج ثقافي عام ينزع الى استحضار قوة مفارقه غيبية: خارجية أو فوقية لديها القدرة دائماً على الفعل والتأثير في الواقعي والداخلي والعادي. وإذا كانت هذه القوة المفارقة يتم تفسيرها على مستوى الوعي الشعبي تفسيراً سحرياً أسطورياً تماماً باتجاه خرافات الجان والعفاريت، فإنها تتحول على المستوى الثقافي الأرقى نوعاً (والذي يحوز أصحابه مؤهلات تعليمية وتدريبات عملية، لكن من دون تأسيس ذلك كله على منهجية علمية تصوغ لديهم رؤية نقدية) نحو تفسير «سياسي» لا خرافي، يستدعي «آخرَ» لا بد وأن يكون مناوئاً لأهداف الجماعة الإنسانية على نحو يبرر تاريخياً وواقعياً اتهامه بالعداء.
وفي اللحظة التاريخية التي نعيشها وبكل إحباطاتها كان ممكناً لعقل الإسلام السياسي أن يربط عميقاً بين الخبرات الثلاث الكبرى التي تحكم علاقة المجتمعات العربية الإسلامية، بنظيرتها المسيحية الغربية: الاستعمار الغربي، والهجمة الصهيونية، والتحيز الأميركي، كي يمنح لهذه العقدة عمقها التاريخي، وأن يستحضرها في اللاشعور الثقافي لديه وكأنها عملية تاريخية واحدة، ممتدة وغير منفصلة، تتعالى على الترتيب التاريخي للعصور، وكذلك على الشروط الموضوعية للفعل والتأثير، وأن يعيد تفسيرها على نحو يعطيها دلالة خاصة شبه «سحرية». فهذه التحيزات لا يمكن أن تكون معقولة أو مفهومة في أي سياق سوى المؤامرة الكونية على الشرع الإسلامي من جانب عالم مسيحي لا ينسى قط كونه صليبياً، أي تبشيرياً، ينزع الى اقتلاع الإسلام من صدور المؤمنين به أو حتى تلويثه بالقيم العلمانية الفاسدة والمادية الملحدة، والأخلاق الباطلة التي تخلو من الفضيلة والاحتشام وتزخر بالعري الفاضح، حيث يجلس قادته ليحيكوا هذه المؤامرة في ظلمة الليل قبل أن يقوموا بتنفيذها في نهار اليوم التالي بتأييد ساحق من شعوبهم ودعم فائق من كنائسهم.
وهكذا يحتل عالم الإسلام بالذات موضع العدو للعالم الغربي المسيحي، لدوافع دينية فقط، ومن ثم فهي أبدية لا تقبل أي حوار أو حل وسط تاريخي، طالما لا يوجد احتمال أن يغير أي من الطرفين معتقده الديني. كما تجرى عملية تنميط شاملة، فيصير العالم العربي الإسلامي كلاً مصمتاً، يتم اختزال تنوعاته العرقية والجغرافية والثــقافية الممتدة من الشرق الأقصى حتى الغرب الأوســـط، في العقيدة الدينية، فنصير هنا وببساطة شديدة أمام عراك ديني واضح القسمات بين المسيحية والإسلام. كما يصير الغرب مفهوماً كلياً هو الآخر، يتم التعالي على تناقضاته السياسية والجغرافية والقومية، مثلما يتم تجاهل الحالة العلمانية المهيمنة عليه منذ قرون، وكذلك الصراعات التي لا تتوقف بين التيارات المادية والروحية، أو بين التيارات الإنسانية النقدية، ونقيضتها العنصرية، ليتم حشر الجميع في تلك الزاوية الضيقة كعالم «صليبي»، واختزال المركّب الشامل والإشكالي والنسبي من الــــدوافـــع الثــــقــافيــــــة والسياسية والاستراتيجية التي صاغت الذكاء التاريخي لعالمنا، الى عامل وحيد بسيط، أبدي وحتمي، هو العداء الديني الذي يتجسد في صورة مؤامرة كونية لا يمكن فهم العالم من دونها.
الأحد، ١٧ سبتمبر/ أيلول ٢٠١٧ (٠١:٠ - بتوقيت غرينتش) |