التاريخ: أيلول ١٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في قضية كاترين مزهر - عمر قدور
بعد اختطاف كاترين مزهر بنحو أسبوعين، وجدت ثلاث جثث لمتهمين بخطفها ملقاة في ساحة «المشنقة» في مدينة السويداء، مع توقيع من «آل مزهر»، وتحت عنوان «هذا مصير كل خائن للعرض» كُتبت الآية القرآنية «وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون»، متبوعة بأسماء المتهمين الثلاثة للتأكيد على هويتهم.

خيانة العرض في الترويسة لا يُقصد بها موضوع الشرف التقليدي، فالضحية كاترين مزهر ابنة السبعة عشرة عاماً اختُطفت بقصد الاتجار بأعضائها، بعدما استُدرجت بذريعة الاستجواب أمام جهة أمنية، من قبل أفراد معروفين بانتماءاتهم الأمنية.

آل الضحية كاترين، الذين تنسب اللافتة المرفقة بالجثث إليهم مسؤولية قتل المتهمين ولم يتبرأوا منها، نشروا تسجيلاً مرئياً للمتهم باستدراج القاصر إلى مكان التسليم، وفيه يعترف بقبض مبلغ مليوني ليرة سورية لقاء مهمته. الأهم أنه يشير إلى تورط مدير مكتب رئيس الاستخبارات العسكرية في المدينة، وأيضاً إلى تورط شخصية من جمعية «البستان» التي يملكها ابن خال بشار الأسد. ويُلاحظ في التسجيل إخفاء الصوت في أحد المقاطع، ما يدل على التعمد في بث الاتهامات الواضحة، وقصَر المنشور من التسجيل قد يخفي رسالة أخرى فيما لو قرر أولئك معاقبة العائلة.

لم تنل حادثة الاختطاف، ومن ثم إعدام المتهمين على هذا النحو، ضجة كبيرة لدى عموم السوريين. ويمكن فهم ذلك على خلفية المآسي الأشد التي تحدث في الوقت ذاته، فمدينة الرقة مثلاً دُمّر ما لا يقل عن 80 في المئة منها، مع دلالة هذه النسبة من حيث عدد الضحايا المدنيين، تحت يافطة الحرب على «داعش». كذلك هو حال مدينة دير الزور المجاورة التي يدفع مدنيوها ثمناً باهظاً لهجوم قوات الأسد المدعومة بالطيران الروسي على مواقع «داعش»، بينما يجد الأخير وهو يتعرض لهجومين ضخمين في معقليه متسعاً للترفيه عن عناصره باستهداف مدينة السَلَمية ونواحيها بالصواريخ، ذلك بحسب الرواية «الرسمية» التي تناقضها روايات أخرى من الأهالي تقول إن مصدر الصواريخ هو تنظيم الأسد.

ثمة سبب آخر لإهمال مأساة كاترين، وهو وقوع العديد من المآسي المشابهة، وبقاء غالبيتها ضد مجهولين، مع أن أصابع الاتهام تشير طوال الوقت إلى شبيحة الأسد أو إلى عناصر معروفين في استخباراته. إحدى الروايات المتصلة بمأساة كاترين نفسها تقول إن جانباً من اختطافها أتى على خلفية رفض تزويجها ضابطاً في الاستخبارات تقدم لخطبتها، والمتهم الذي يظهر في التسجيل يقول إن ما يعرفه عن الغاية من الاختطاف كان ينحصر بإهانة والدها، والسياق يوحي بأن الإهانة هي رد من جهة أمنية على ما يُنظر إليها إهانة وجهها الأب أو كبرياء وجب تحطيمه.

رئيس الاستخبارات العسكرية وفيق ناصر، الذي اتُّهم مدير مكتبه في الشريط المصور، سبق أن طالب الأهالي بإقالته، وعلى عادة النظام في عدم الاستجابة حتى لمناشدات مواليه أُبقي عليه في منصبه رغم انتهاكاته في حقهم. هو «عاطف نجيب» السويداء، ومن المعلوم أن عاطف نجيب كان يشغل المنصب نفسه في درعا مستهل الثورة، وفي فرعه تم تعذيب الأطفال وقتلهم، ونُقل عنه قوله للأهالي المحتجين أن بإمكانهم الإتيان بنسائهم ليتولى أمر إنجاب أطفال بدل المقتولين. إلى الأول أيضاً تشير أصابع الاتهام في مقتل الشيخ وحيد البلعوس قبل سنتين، بعد أن كان زعيم حركة «مشايخ الكرامة» قد واجه المذكور كنايةً عن رفضه سلوك النظام.

ليست حادثة الخطف، والاقتصاص العائلي من المتهمين، مما يمكن عدّه شأناً اعتيادياً أثناء الصراعات التي تضعف فيها الدولة. هنا لا بد من ذكر قيام تنظيم الأسد بالإفراج عن محكومين جنائيين مع بدء الثورة، وتجنيدهم وتسليحهم كشبيحة تحت مسمى «لجان الدفاع الوطني» بتبعية مباشرة للاستخبارات. هذا بدأ مع بدء التظاهرات السلمية، ولم ينل من الاهتمام كالذي ناله إطلاق سراح معتقلين إسلاميين وما يُنسب إليهم من دور في القضاء على الثورة.

أصحاب السوابق أولئك أصبحوا المثل الأعلى للشباب والمراهقين، في ما يخص النفوذ في المجتمع المحلي، والبطش والسرقة أثناء اقتحام المناطق الثائرة. مع التنويه بالتسامح الذي أبداه بعض المجتمعات المحلية إزاء «أبطاله» الجدد، والتسامح مع أسواق المسروقات «سُمّيت حينها بأسواق السُنّة» التي انتعشت من دون رادع في التعامل معها بيعاً وشراءً، باستثناء الروادع الفردية.

صار من المعتاد رؤية صاحب السوابق، أو من التحق به، بثياب مرقطة وفي سيارة بلا لوحة، لأنها مسروقة أصلاً، مع بارودته أو رشاشه، أو وهو يحتسي شراباً منشطاً مع الحشيش أو المخدرات. ذلك من دون التفكير في العواقب على المجتمعات الموالية، أو الواقعة تحت سيطرة النظام عموماً. السلطة المطلقة التي تمتع بها من اعتادوا على خرق القانون من قبل الثورة لا بد من أن تستتبع ذلك الجشع المتزايد إلى النفوذ، وأيضاً الجشع المتزايد إلى الكسب غير المشروع مما لا تقدر المناطق الثائرة على إشباعه، سواء بعد اقتحامها وتعفيشها (سرقتها)، أو بعد احتكار عمليات التعفيش لمصلحة رؤوس كبيرة. ثم إنه سيكون من السذاجة وحسن الظن الاعتقاد بأن من اعتادوا على استباحة حيوات وأملاك سوريين «معادين» سيمتلكون حساسية خاصة إزاء حيوات وأملاك سوريين موالين.

في العودة إلى ظاهرة الشبيحة، التي أخذت اسمها أصلاً من تسمية محلية لفئة من سيارات المرسيديس كانت حديثة حينها، فقد انتعشت هذه الظاهرة أثناء مواجهة النظام مع «الإخوان» في نهاية السبعينات، وكان ميدانها الأساسي منطقة الساحل، حيث كان الأهالي يروون حكايات فظيعة وطريفة ومبتكرة عن أساليب الشبيحة في هتك القوانين والأعراف والأعراض. المفارقة أن المصنّفين كمجتمع موالٍ هم من دفع ثمن وجود الشبيحة في شكل أساسي آنذاك، والآن يعيد التاريخ نفسه، لكن مع تضخم هائل في عدد الشبيحة ونفوذهم، فضلاً عن تبعية بعض تنظيماتهم مباشرة للقيادة الإيرانية.

اليوم، مع ما يُروّج عن انتصار بشار بعد استقدامه الاحتلال الإيراني وميليشياته الشيعية ثم استقدامه الاحتلال الروسي، قد تكمن المأساة والملهاة معاً في حاجة مؤيديه ومن في حكمهم إلى جيوش إضافية كي تحميهم من تنظيم الشبيحة هذا. وربما لا يكون الرهان الأصعب حماية تنظيم بشار من خصومه، وإنما حمايته من نفسه.