تفيدنا المصادر التّاريخيّة بأنّ حادثة التمرّد الأولى التي شهدت تورّطاً لزعماء من الدّروز حصلت بعد الفتح العثمانيّ لبلاد الشّام بفترة قصيرة. وفي هذا الصّدد، يروي المؤرّخ الدّرزي ابن سباط (توفي 1520) أنّه في عام 1518، ألقي القبض على أربعة من الأمراء الدّروز كان أحدهم من البحتريين، أمّا الثّلاثة الآخرون فكانوا من المعنيين. وقد ألقي القبض عليهم حينذاك لاشتراكهم في عصيان قاده ناصر الدّين محمد بن الحنش ضدّ السّلطان سليم الأوّل، وكان ناصر الدّين هذا زعيماً بدوياً سنّياً من سهل البقاع. ويمكن النّظر إلى هذا العصيان الأوّل على أنّه انتفاضة للعناصر الموالية للدّولة المملوكيّة البائدة ضدّ الدّولة العثمانيّة الحديثة العهد، حيث من المعروف أنّ ابن الحنش ألجأ عدداً كبيراً من أمراء المماليك الذين كانت تلاحقهم السّلطات العثمانيّة. لكن بمعزل عن حقيقة التّوجّه المملوكيّ لهذا العصيان، فإنّ هنالك ثلاثة أمور إضافيّة تجعل هذا العصيان جديراً بالملاحظة. أوّلها أنّ ممثلي البندقيّة في كلّ من بلاد الشّام وقبرص تابعوا مجريات هذا العصيان باهتمام كبير ونقلوا ملاحظاتهم إلى البندقيّة. وثانيها أنّ التّمرّد بدأ بعد أن فقد ابن الحنش منصبه كحاكم لبيروت وصيدا. وثالثها أنّ حلفاء ابن الحنش في الانتفاضة كانوا زعماء دروزاً تقع أملاكهم الخاصّة والمناطق التي يسيطرون عليها في الأراضي الجبلية المتاخمة للمدينتين السّاحلتين اللتين فقد ابن الحنش السّيطرة عليهما. أحد هؤلاء الزّعماء كان أميراً بحتريّاً من منطقة الغرب الجبليّة المشرفة على بيروت، وثلاثة منهم كانوا أمراء معنيين من منطقة الشّوف المتاخمة لصيدا. وعلى أيّ حال كان ابن الحنش المتمرّد الرّئيسي. وقد اعتقل في ما بعد، وأعدم عقاباً له. أمّا الأمراء الدّروز فكانت عقوبتهم مخفّفة، إذ اقتصرت على غرامة باهظة دفعها كلّ منهم.
تفيدنا المصادر المحليّة والدّراسات الحديثة بأنّ ميناء بيروت كان أحد أهمّ الموانئ من حيث النّشاط التجاريّ للبندقيّة مع منطقة شرق البحر الأبيض المتوسّط. ونعلم من المصادر المحليّة ذاتها أنّ الزّعماء الدّروز وجماعاتهم التي كانت تعيش في المنطقة المجاورة لهذا الميناء حصلوا على أرباح مالية كبيرة لقاء دورهم في هذه التّجارة. وعلى سبيل المثل، فإنّ المؤرّخ الدّرزي صالح بن يحيى الذي عاش وكتب في القرن الخامس عشر، وهو أحد أفراد عائلة آل بحتر التي حكمت بيروت ومنطقة الغرب، يقول: «إنّ الأرباح المحققة من المعاملات التجاريّة في ميناء بيروت كانـت كبيرةً جداً».
بعد سنتين من تمرّد ابن الحنش، يروي ابن طولون، المؤرّخ الدّمشقي الذي عاصر الحدث، ما يأتي:
«وفي يوم الجمعة الأخير من شوّال، 926 (12 تشرين الأوّل - أكتوبر 1520) جيء برؤوس الفرنجة إلى دمشق مع جماعة من أهل بيروت، وأخبروا أن يوم الأربعاء ثامن عشريه طلع من البحر إلى عند عين البقر هناك، هؤلاء الفرنج، في زي الأروام، وراموا أخذ ميناء بيروت، ففاق عليهم المسلمون واقتتلوا، فقتل من المسلمين نحو مئة، ومن الإفرنج نحو الأربعمئة، وهرب الباقون، وقد كانوا جاؤوا في تسعة مراكب منها خمس برشات، والباقي أغربة.
وفي يوم السّبت مستهلّ ذي القعدة، وصل إلى دمشق خمسة أحمال من رؤوس الفرنج المقتولين بساحل بيروت، وفرقت على الحارات، مثل الصّالحية، ميدان الحصى، والقبيبات والشّاغور، وحارة النّصارى، وحارة اليهود عند بستان القط، وحارة السّمرّة فوق العنابة، واستمرت إلى أن أكل غالبها الكلّاب، وتحرر أنّه قُتل من المسلمين خمسة أنفس، ومن الإفرنج خمسمئة وستة وثمانون نفساً، وأن عدة المراكب أربعة عشر، وأنّهم نزلوا بثلاثة صناجق وثلاثة طبول.
وفي يوم الأحد ثانيه سافر النّائب إلى بيروت، ليأخذ سلب الإفرنج المقتولين، ويتفقد أبراج ذلك الثّغر من السّلاح».
كانت هجمات القراصنة أمراً عادياً في ذلك الوقت، وقد مارسها قراصنة الفرنجة والمسلمون (العثمانيّون) على نطاق واسع. إلّا أنّ هجوم الفرنجة على بيروت بهذا العدد الكبير من الرّجال والسّفن ونوعيّاتها كان يهدف حسب كلام ابن طولون القاطع إلى السّيطرة على ميناء بيروت، وهذا يدلّ بوضوح على أنّ العملية كانت من نوع خاصّ. ومن المثير للاهتمام أنّ الهجوم حصل بعد أيّام معدودة من وفاة السّلطان سليم الأوّل. لكن لسوء الحظّ، فإنّ ابن طولون لم يحدّد هويّة المهاجمين الفرنجة، كما كان شائعاً لدى المؤرّخين المحليين لتلك الفترة.
في عام 929 - 1523 يخبرنا المؤرّخ الشّاهد نفسه بأنّ حاكم دمشق (خرّم باشا Hürrem Pasha) هاجم منطقة الشّوف الحيطي، ووصلت أخبار انتصاره على الدّروز بعد أيّام قليلة إلى دمشق كما وصلت أربعة أحمال من رؤوس الدّروز على التّوالي لتعرض في القلعة، وفي شوارع المدينة وأسواقها.
وبعد أيّام قليلة، دخل الحاكم إلى دمشق في موكب ضخم، ومعه كثير من المخطوطات الدينيّة االدّرزيّة التي، كما يقول ابن طولون، تثبت كفر الدّروز. وقد كان أهالي دمشق ممتنين لما فعله خرّم باشا، وأنشد الشّعراء قصائد المديح له في هذه المناسبة. وفي كتاب آخر عنوانه «سلّ الصّارم على أتباع الحاكم» يحدّد ابن طولون المنطقة الدّرزيّة التي تعرضت لهذا الهجوم على أنّها شوف سليمان بن معن (أو الشّوف الحيطي). وعلم الدّين سليمان هذا بالذّات كان من بين الزّعماء المعنيين الذين انتفضوا ضدّ العثمانيّين عام 1518.
ويضيف ابن طولون أنّ خرّم باشا نهب كلّ قرى الشّوف قبل أن يحرقها جميعاً. وحسب ابن طولون فإنّه كتب رسالته «سلّ الصّارم على أتباع الحاكم» التي تتضمّن شرحاً لأصل العقيدة الدّرزيّة وسيرة الخليفة الفاطميّ الحاكم بأمر الله استجابة لطلب زملائه من العلماء، وذلك لمناسبة هذا الهجوم العثمانيّ على الدّروز.
إذا ما نظرنا إلى هذا الحدث منفرداً، نستخلص أنّ هذا العمل الهجومي للعثمانيّين لم يأت رداً على أيّ عمل تمرّد للدّروز، إلّا أنّنا إذا ما نظرنا إليه كحلقة من سلسلة من الحوادث منذ عام 1518 إلى نهاية القرن السّابع عشر ربما يجوز لنا حينئذ أن نعتبر أن هذا الهجوم جاء عقوبة للدّروز لدورهم في تمرّد ابن الحنش عام 1518، والاحتمال الأكثر ترجيحاً أنّ الهجوم كان ناجماً عن الشّكّ في تواطئهم مع الفرنجة، الذين كانوا، على الأرجح، من البنادقة، في هجوم هؤلاء على ميناء بيروت عام 1520. ومهما يكن سبب هذه الحملة العثمانيّة تحديداً ضدّ الدّروز، فإنّ الجدير بالملاحظة أنّ الهجمات اللّاحقة على الدّروز اعتبرت ردّاً على عصيانهم، وسيقت، إلى جانب ذلك التّبريرات الدينيّة لها، كما يرد في الوثائق العثمانيّة والكتابات الشّامية المحليّة. * أستاذ التاريخ العثماني في الجامعة الأميركيّة ببيروت |