تكثر التحاليل عن أسباب الانتفاضات العربية المتعددة التي انطلقت بوحيٍ من الإطاحة الناجحة للنظام السلطوي في تونس في كانون الأول 2010. تشمل هذه الأسباب مجموعة كبيرة من العوامل الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المتفاعِلة في ما بينها فضلاً عن عوامل أخرى تعاظمت على مر السنين لتشقّ مساراً نحو مساحة ديموقراطية مرتجاة في المنطقة. لفتت دراسة صدرت أخيراً أنه ربما ساهم التململ المتنامي من نوعية الحياة والذي يتشاركه كثرٌ على نطاق واسع، في تأجيج الانتفاضات. بعبارة أخرى، شعر الأشخاص العاديون، لا سيما أولئك المنتمين إلى الطبقة الوسطى، بالغضب والإحباط بسبب تدهور مستويات المعيشة جراء انعدام الفرص الوظيفية في القطاع النظامي، وتردّي نوعية الخدمات العامة، وغياب المساءلة الحكومية (Devarajan and Ianchovichina, 2017).
سلّطت دراسات أخرى الضوء على التأثير السلبي الذي مارسه على مر السنين ارتفاع نسبة البطالة – لا سيما في صفوف الشباب – لتبلغ مستويات عالية جداً. وقد حُدِّد على وجه الخصوص أن البطالة فوق عتبة معيّنة هي من أهم شرارات الانتفاضات (Elbadawi and Makdisi, 2017). لقد تسبّب ازدياد البطالة بإضعاف قبضة الأنظمة على السلطة وكذلك بتقويض الصفقة السلطوية، أي قدرة تلك الأنظمة على مقايضة الحقوق والمشاركة السياسية بالسلع العامة وسواها من المنافع الاقتصادية. بدأ العقد الاجتماعي العربي بالتداعي، على حد تعبير بعض الكتّاب (Amin et al, 2012).
من جهة أخرى، تأثير اللامساواة في الدخل أقل حسماً. يبدو أن اتجاهه في العالم العربي يسير على الخط نفسه مع اتجاهه في أماكن أخرى، وأنه لم يتغيّر كثيراً على مر السنين (Hakimian et al, 2013; Bibi and Nabli, 2010). يمكن إذاً الاستخلاص بأن اللامساواة في الدخل أدّت على الأرجح دوراً ثانوياً في أفضل الأحوال، أو حتى دوراً داعِماً فقط في الانتفاضة، على الرغم من أن اللامساواة بين المجموعات الإثنية أو المذهبية ساهمت في الأغلب في استفحالها (Devarajan and Ianchovichina, 2017).
اعتبر بعض الباحثين أن تراجع الثقة بالمؤسسات السياسية القائمة هو من العناصر التي ساهمت في اندلاع الانتفاضات العربية (Spierings, 2017). وهناك بالدرجة نفسها، إن لم يكن بدرجة أهم، توق المواطنين المتجذّر والمتنامي إلى الحرية والمشاركة السياسية في عالم يزداد انفتاحاً، والذي يُضاف إلى تململهم نتيجة شعورهم بالحرمان، وبالإقصاء إلى حد كبير من منافع التنمية الاقتصادية (التايب، 2011؛ مقدسي، 2011). دعماً لهذه النظرة، توصّلت أبحاث أجريت في الآونة الأخيرة عن الانتفاضات إلى أن الحريات المدنية والسياسية، والتحرّر من القمع، ومكافحة الفساد ترتدي أهمية بالنسبة إلى السكان بقدر العدالة الاجتماعية والاقتصادية وسواها من الشؤون الاقتصادية-الاجتماعية (البنك الدولي، 2015).
أثارت الانتفاضات، كما تَبيَّن، تحرّكات مضادّة من جانب الطبقة الحاكمة العربية. نتيجةً لذلك، وباستثناء تونس (والديموقراطية التوافقية القائمة منذ وقت طويل في لبنان)، لم تسلك السلطوية الضارِبة الجذور في المنطقة طريقها فعلياً نحو الديموقراطية الحقيقية، على الرغم من تطبيق بعض إجراءات التحرر المحدودة في عدد قليل من البلدان العربية إبان الانتفاضات.
ليست مقاومة المنطقة العربية للديموقراطية حالة فريدة أو محصورة بهذا الجزء من العالم، ويمكن نسبها إلى العناصر نفسها التي ساهمت، بدرجات متفاوتة، في الإبقاء على أشكال السلطوية المستمرة إنما المختلفة، وأبرزها الثروة النفطية، والنزاعات، وتأثيرات الجوار، والتدخلات الخارجية من القوى الإقليمية والدولية على السواء (Elbadawi and Makdisi, 2017). وأدّت أجواء النزاعات في المنطقة دوراً أساسياً في تأخير الخطوات المحتملة نحو قيام حكم ديموقراطي.
وقد أفضت النزاعات الأهلية التي اندلعت في أعقاب الانتفاضات، إلى ترسيخ تلك الأجواء. نتيجةً لذلك، وبدفعٍ من الانقسامات المذهبية، ولا سيما وصول مجموعات أصولية دينية متزمّتة إلى السلطة، اشتدّ الأثر السلبي للنزاعات في المنطقة على عملية الدمقرطة، ما شكّل تهديدات متزايدة لأي خطوة محتملة في هذا الاتجاه.
إذاً ما هي الآفاق المستقبلية للديموقراطية في العالم العربي؟
تشتمل العوامل التي تساهم في تعزيز الحكم الديموقراطي في المنطقة، على التأثيرات التحديثية (مثلاً الطبقة الوسطى المتنامية وتحسّن مستويات التعليم، تحسين المساواة الجندرية)، وازدياد التنافر بين المؤسسات السياسية الحصرية، وتعزيز انفتاح المؤسسات الاقتصادية، فضلاً عن التطلعات الشعبية الدائمة إلى الحرية والمساواة في الحقوق السياسية والعدالة الاجتماعية.
لكن إذا لم تجد النزاعات الكبرى (بما في ذلك النزاع العربي-الإسرائيلي) طريقها إلى تسوية عادلة، أظنّ أن التأثيرات الإيجابية للعوامل أعلاه سوف تضعف، وعليه، سيتعثّر انتشار الحكم الديموقراطي الحقيقي في المنطقة العربية، مع مفاعيله الإنمائية الأوسع نطاقاً. أياً تكن هذه التسويات العادلة، من شأنها أن تساهم في ترسيخ العوامل التي تتضافر لإضعاف مرتكزات السلطوية العربية.
في الوقت نفسه، فإن التأثيرات السياسية المناوئة التي تمارسها موارد النفط الوافرة نسبياً سوف تتصدّى لها، مع مرور الوقت، التأثيرات التي تفرض التغيير، مثل تعاظم أوجه اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية، وتنامي الطبقة الوسطى، وتراجع الأثر الريعي لأسباب عدة منها تبدُّل الظروف الاقتصادية الداخلية فضلاً عن توسُّع دائرة الديموقراطية في الجوار مع تحوُّل مزيد من البلدان إلى ديموقراطيات جزئية إن لم يكن كاملة.
لكن لماذا الحكم الديموقراطي في الدرجة الأولى؟
من المسلّم به أنه ليس هناك إجماعٌ حول تأثير الأنظمة السياسية المختلفة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية. لقد قيل إن المؤسسات الديموقراطية لا تقود بالضرورة إلى نتائج اقتصادية أفضل، وإن شكلاً ما من أشكال الحكم السلطوي قد يكون محبَّذاً بالفعل من أجل تسريع عجلة التنمية. وغالباً ما تُقدَّم كوريا قبل الديموقراطية مثالاً أساسياً عن هذا الرأي.
من جهة أخرى، قيل أيضاً إن الحكم الديموقراطي مخوَّل بصورة أفضل خدمة الأهداف المرجوّة للتنمية المنصفة، وكذلك أهداف إعادة الإعمار في حالة البلدان المنكوبة بالنزاعات. ويتجلّى ذلك في شكل خاص، عند مستوى صناعة السياسات، في أن المؤسسات الديموقراطية أكثر قدرة من المؤسسات السلطوية على تأمين سياسات شفّافة وقابلة للتوقع، مع تفويضات واضحة يسهل رصدها، وعملية غير عشوائية لصناعة السياسات. في هذا الإطار، لا بد من الإشارة إلى أن إحدى الشوائب الأساسية في الأنظمة السياسية العربية كانت، ولا تزال، سيطرة النخبة على الدولة مع ذهاب المنافع الاقتصادية المترتّبة عن هذه السيطرة وغير المتكافئة إلى حد كبير، إلى الطبقة الحاكمة.
أياً كان الموقف الذي يتخذه المرء من التأثير المقارَن للمؤسسات الديموقراطية في مقابل المؤسسات غير الديموقراطية على النتائج الاقتصادية، يبقى الواقع أن الديموقراطية والحرية مكوِّنان أساسيان من مكوّنات الرفاه البشري. إنهما تسيران جنباً إلى جنب مع الرضى الوطني المرتبط بالتنمية الاقتصادية المنصفة والمستدامة التي تشتمل على العدالة الاجتماعية.
خلاصة القول، الأمل هو أنه فيما تنطلق البلدان العربية المنكوبة بالنزاعات في تنفيذ برامجها لإعادة الإعمار، لن يتم إنشاء مؤسسات سلطوية من جديد بذريعة الحاجة إلى معافاة سريعة ومطّردة. سوف تكون ذريعة واهية الهدف منها العودة إلى السلطوية. منتدى البحوث الاقتصادي وسواه من المؤسسات البحثية مدعوّة للإضاءة على أن مكوِّنات المسار الأفضل نحو التنمية تشتمل بالضرورة على النمو المتين والإنصاف فضلاً عن الديموقراطية.
المراجع
- التايب، ع.، 2011، "الخلفية الاقتصادية والاجتماعية للثورة في تونس: قراءة سوسيولوجية"، ورقة قُدِّمت في مؤتمر "الثورة والإصلاح والانتقال الديموقراطي في العالم العربي" من تنظيم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، قطر، 19-21 نيسان 2011.
- Amin, Magdi, et al 2012, After the Spring: Economic Transitions in the Arab World, Oxford University Press
- Bibi, S., and Nabli,M.K., 2010, "Equity and inequality in the Arab region", ERF Policy Research Report No. 23
- Devaragan, Shantayanan - and Ianchovichina, Elena "A Broken Social Contract, Not High Inequality, Led to the Arab Spring", Review of Income and Wealth, February 2017
- Elbadawi, Ibrahim and Makdisi, Samir, 2017, Democratic Transitions in the Arab World, Cambridge University Press,
- Hakimian, Hassan, et al, 2013, Inclusive Growth in MENA: Employment and Poverty Dimensions in a Comparative Context, FEMISE Research - 16 Report no. 35
- Makdisi, Samir, 2011 "Autocracies, Democratization and Development in the Arab Region", Economics and Political Development, Economic Selected Papers from the Economic Research Forum 17th Annual Conference, March 2011
- Spierings, Neils, 2017, "Trust and Tolerance across the Middle East and North Africa: A Comparative Perspective On the Impact of Arab Uprisings", Politics and Governance, V 5, Issue 2.
- World Bank, 2015 Inequality, Uprisings and Conflict in the Arab World.
وزير اقتصاد سابق وأكاديمي وخبير اقتصادي_ أرسل هذا النص لـ"قضايا النهار".
ترجمة نسرين ناضر عن الانكليزية |