التاريخ: أيلول ٤, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
تونس: هل تصدّع الحلف بين الشيخين؟ - محمد الحدّاد
يطلق بعض التونسيين عبارة «حلف الشيخين» على الائتلاف الحاكم حالياً والذي تشكّل بعد الانتخابات الاشتراعية في تشرين الأوّل (أكتوبر) 2014. آنذاك انتصر حزب «نداء تونس» بزعامة الباجي قائد السبسي على حزب «النهضة» من دون أن يحصل على الأغلبية المطلقة في البرلمان، فكان أمامه أحد حلّين: إما أن يتحالف مع اليسار أو مع الإسلاميين. لم يشأ أن يسلك المسلك الأول بحكم خلفيته الاقتصادية الليبرالية واحتياج الاقتصاد التونسي إلى مساعدات صندوق النقد الدولي، فراهن على الاختيار الثاني: إشراك شبه رمزي لحزب «النهضة» الذي رضي بالمعروض كي لا يخرج تماماً عن موقع السلطة.

مع تنامي الأزمة داخل «النداء»، تنامت أيضاً تمثيلية الإسلاميين في الحكومة وأصبح التحالف بين الزعيمين الهرمين للحزبين محدّداً في توجيه البلاد.

لقد استطاع «النهضة» في الأثناء أن يتجاوز آثار هزيمته الانتخابية سنة 2014 ويستعيد قوته وهو يستعدّ الآن لخوض غمار الانتخابات المحلية نهاية السنة الحالية، متمتعاً بحظوظ وفيرة في تحقيق نتائج مهمة. لكن يبدو أنه بدأ يفكّر بأبعد من ذلك ويهدّد بخرق التوافق الهشّ الذي ربطه حتى الآن بحليفه في الحكم.

لقد فاجأ راشد الغنوشي التونسيين في اليوم الأول من آب (أغسطس) عندما ظهر في مقابلة صحافية مطولة على إحدى القنوات الخاصة. لم يكن عنصر المفاجأة عودته إلى الإعلام المرئي بعد غياب طويل، ولا كونه ارتدى لأوّل مرة في تونس ربطة عنق، ولا مساندته الصريحة لبرنامج التعديل الهيكلي الذي وضعه صندوق النقد ويتضمن إجراءات قاسية منها تسريح جزء من عمّال القطاع العام وخصخصة مؤسساته. وإنما المفاجأة كانت مطالبته رئيس الحكومة الحالي بالتزام عدم الترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة، إذا أراد أن يواصل التمتع بمساندة كتلة «النهضة» البرلمانية. لقد فهم الكثيرون من المراقبين أن الغنوشي يمهّد بذلك لترشحه الشخصي للرئاسة، لا سيما أنّ حزبه عدّل نظامه الداخلي في مؤتمره الأخير بما يسمح بهذا.

في كل الحالات، يمثل هذا الطلب الغريب إعلاناً من «النهضة» بأنها أصبحت معنية باستحقاق الرئاسة وليست مستعدّة إلى أن يؤول إلى رئيس الحكومة الشاب الذي يرعاه الرئيس الحالي وربما يعدّه لهذه المهمة. من المفارقات أنّ هذا الطلب رفع شعبية رئيس الحكومة في ظرف يعاني فيه الاقتصاد مشكلات بالغة، لا سيما أنّ الغنوشي انتقد أيضاً حملته ضدّ الفساد التي طاولت شخصيات وازنة لم يكن الرأي العام يتوقع أن يتجرّأ عليها يوسف الشاهد، وبعضها يشتبه بكونه موّل حركة «النهضة» سابقاً. لكن تلك الشعبية لن تكون كافية بما أنّ موازين القوى المهمة تقاس في البرلمان، حيث فقد الشاهد جزءا من دعم حزبي «النداء» و «النهضة» لأسباب مختلفة.

مقابلة الغنوشي كانت موجهة أيضاً للعواصم الغربية لتعلن أن «النهضة» ليست من الإسلام السياسي وأن ربطة عنق زعيمها عنوان لحداثتها وأنّ درجة مساندتها لبرنامج صندوق النقد لم يتجرّأ عليها أيّ من الأحزاب الحداثية. فلم يتأخر قائد السبسي بالتدخّل وتسجيل نقطة حاسمة في المواجهة غير المعلنة. فالجدل الذي حدث في تونس وخارجها بمناسبة دعوة رئيس الجمهورية إلى الملاءمة بين الدستور الجديد والقوانين القديمة المعمول بها في كل الميادين ومنها مواريث المرأة وزواجها من غير المسلم، كانت في جانب منها إحراجاً متعمّداً للغنوشي الذي وجد نفسه حائراً بين الصورة الجديدة التي يسوّقها عن نفسه وحركته أمام الغرب وعلاقته بأتباعه الذين لا يمكن أن يقبلوا بالمس بقواعد الزواج والميراث، ولا شكّ في أنه فهم أن ربطة العنق لا تكفي وحدها للحصول على رضا الغرب. وقد اختفى من الإعلام إلى أن طرحت قضية تعديل الحكومة الحالية بسبب شغورات حصلت فيها، فعادت نبرة القوة مجدّداً برفض الحزب تغيير الوزراء الذين ينتمون إليه ومطالبة الشاهد بالاقتصار على سدّ الشغورات لا غير. وهكذا يبدو أنّ لعبة الشطرنج بين الشيخين بدأت وأنها ستتواصل إلى الانتخابات المحلية القادمة أو ربما الانتخابات الرئاسية المقررة سنة 2019. وهي ستدور سلمياً لكنها حاسمة، إذ من الواضح أن «النهضة» تخلصت من عقدة هزيمتها سنة 2014 بسبب النتائج المتواضعة التي سجلتها الحكومتان اللتان تولتا الحكم منذ ذلك التاريخ. وإذا كانت بعض المؤشرات المحدودة تترك الأمل بأن يعزّز الشاهد نجاح الحكومة الحالية حتى 2019، فعودة «النهضة» إلى المسرح السياسي بثقل أكبر ستكون حائلاً دون ذلك وستضع المزيد من العراقيل أمامه. أما «نداء تونس» الذي انفجر إلى تيارات وتنظيمات كثيرة فلم يعد قادراً منذ مدّة على توفير الدعم الحاسم لرئيس الحكومة، بل إنّ جزءاً منه ينظر بعين الرضا إلى المواجهة بينه وبين «النهضة»، لأن تواصل شعبية رئيس الحكومة قد يقضي على طموح بعض زعماء الحزب للترشح للانتخابات الرئاسية المقبلة.

في كل هذه المناورات، لا يجد المواطن العادي بوادر أمل لتحسين أوضاعه الاقتصادية وحلّ مشاكله. فمع التحسن الأمني الكبير الذي حصل السنة الماضية، تراوح المؤشرات الاقتصادية مكانها، ويتواصل انهيار الدينار بما يترتب على ذلك من ارتفاع بالغ في الأسعار وارتفاع في التضخم وفي نسبة المديونية. وقد تهدّد هذه المناورات بأزمات أكثر حدّة إذا تجاوزت بعض الخطوط الحمراء، كفتح ملف شبكات تسفير الإرهابيين، وقد ساهم الحزبان «نداء تونس» و»النهضة» حتى الآن في احتوائه. ولا شكّ في أن «النهضة» يحسب حساب كلّ خطوة وسيعمل على تفادي تأزيم الأمور إلى حدّ يخرج بها عن السيطرة مفضلاً مواصلة زحفه الصامت نحو الحكم، فيما قد يرى «نداء تونس»، على العكس، أن من مصلحته التصعيد كي يكسب ودّ جزء من الشعب يخشى عودة «النهضة» إلى السلطة. أما الحكومة فستواجه موسماً سياسياً صعباً ما أن تمرّ مناسبة عيد الأضحى والعودة المدرسية، فقد استنفدت سبل المديونية الداخلية والخارجية وأصبحت أمام استحقاق تطبيق متطلبات التعديل الهيكلي وخصخصة مؤسسات القطاع العام وتسريح جزء من عماله، وبذلك تفتح على نفسها مواجهة مع النقابة العمالية التي تمثل القوة السياسية الثالثة في البلاد، والتي ستجد نفسها في مأزق بدورها، بين مواجهة الحكومة وتقوية «النهضة» أو مهادنة الحكومة وإثارة غضب منتسبيها.