التاريخ: آب ٣١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
«سورية من الداخل» غائبة عن الخطاب السياسي الغربي - لينا الخطيب
ككاتبة منتظمة في هذه الصحيفة، وكباحثة مهتمة بالصراع السوري، أردت أن أغتنم فرصة هذا المقال لإطلاع القراء على المشروع الذي أتولاه عن سورية، تحت عنوان «سورية من الداخل»، في معهد تشاتام هاوس، حيث أترأس برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. هذا المشروع بدأ في نيسان (أبريل) من هذا العام، أي أنه يقترب الآن من شهره السادس، ومن المقرر له أن يستمر عاماً ونصف عام آخر، ونأمل لفترة أطول.

تمثل أحياناً كتاباتي الخاصة عن سورية جزءاً من جهد فردي، ولكنها كثيراً ما تكون نتاج محادثات مع عدد كبير من الخبراء والجهات الفاعلة السورية، إضافة إلى محادثات مع صناع السياسات في الغرب. لقد أدركت من خلال تلك المحادثات أن الكثير من الاهتمام العلمي والسياسي موجه إلى البعد الدولي للنزاع السوري، والأزمة الإنسانية، وأزمة اللاجئين، ومواجهة ظهور الجماعات المتطرفة. إلا أنه في دوائر السياسة الغربية، وكذلك في المجال العام، لا تزال هناك ثغرات كبيرة في دراسة ديناميات الصراع على أرض الواقع. الجماعات المسلحة في سورية مثال رئيسي لتلك الثغرات. فهناك قدر كبير من المبالغة في تبسيط سبب بروز جماعات معينة، وتعرض البعض الآخر للانقراض، وهو ما يُعزى كثيراً إلى الإيديولوجية. لكن الديناميات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، وليس مجرد الإيديولوجية، هي التي تمسك بمفتاح قرار الأفراد والمجتمع المحلي تبنّي الجماعات المسلحة أو مقاومتها.

تواصل الجماعات المسلحة الظهور في سورية: فانهيار جماعات والاستيلاء على غيرها، واندماج البعض الآخر، وانتشار جماعات جديدة، تشير إلى الوضع المتغير باستمرار على الأرض، حيث يتأثر انتشار الجماعات المسلحة بعدد من العوامل، بعضها خاص بمناطق معينة، وبعضها أكثر عمومية، لكنها كلها غير مدروسة بالقدر الكافي من قبل المحللين. ففي المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، على سبيل المثال، ساهمت عوامل دولية - مثل التدخل الروسي أو التمويل الخارجي من قبل الحكومات المختلفة - في انتشار الجماعات المسلحة، في حين مكّنت المواجهة العسكرية المستمرة مع النظام، إضافة إلى العوامل الداخلية، جماعات مثل «جبهة فتح الشام» من جذب المزيد من الأتباع. وفي المناطق الخاضعة للنظام، فإن الخوف من الإسلاميين يدفع الناس إلى مساندة الميليشيات التي يدعمها النظام، على رغم تجاوزاتها في حقهم. كذلك فإن الحوافز الاقتصادية هي أيضاً محرك رئيسي للانضمام إلى عضوية الجماعات المسلحة في المناطق الخاضعة إما لسيطرة النظام أو المعارضة.

على رغم ذلك، يظل الخطاب في العديد من العواصم الغربية، في شأن الجماعات المسلحة، قائماً على تصنيفها على أنها «معتدلة» أو «متطرفة». هذا أمر خطير لأنه يغض النظر عن حالات إيجابية، مثل انتخابات المجلس المحلي لبلدة سراقب، التابعة لمحافظة إدلب، والتي جرت مؤخراً، حيث كان للسكان دور المبادرة في الحفاظ على البلدة محايدة في مواجهة محاولات «جبهة فتح الشام» السيطرة عليها. إن الحديث الذي يسود الغرب هو للأسف عن إدلب كمرتع للجماعات المتطرفة.

إن الدور المتطور للجماعات المسلحة - المؤيدة والمعارضة للنظام - له أيضاً تأثير كبير في المؤسسات التابعة وغير التابعة للدولة في سورية. فتلك المؤسسات تتغير نتيجة الصراع. لقد اضطرت مجالس المحافظات والوزارات إلى التكيّف مع وجود جهات فاعلة غير تابعة للدولة، بينما تتسلل تلك الجهات الفاعلة نفسها إلى المؤسسات القائمة وتنشئ مؤسسات جديدة، مثل المنظمات غير الحكومية، كوسيلة لحشد الدعم الشعبي المحلي، والناس في المحافظات المختلفة يقبلون أو يرفضون تلك الأنماط وفقاً لتفاعلات معقدة، وفي كثير من الأحيان غير مفهومة بالقدر الكبير، بين العوامل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية.

كذلك تتطور توقعات الناس من المؤسسات التابعة وغير التابعة للدولة وهم يواجهون التوترات الاجتماعية المتزايدة بسبب النزوح، واقتصاد الحرب، وعدد لا يُحصى من العوامل الأخرى. وتشكل هذه الديناميات، الموجودة في مناطق النظام ومناطق المعارضة على السواء، تغيراً جوهرياً في العقد الاجتماعي في سورية، وهو ما سوف يكون له آثار طويلة الأجل في المجتمع السوري وفي آفاق المصالحة. مع ذلك، فإن الحديث السائد في الغرب يقدم مؤسسات الدولة السورية في مناطق النظام وكأنها لم تتأثر بديناميات الصراع، بينما إمكانات المؤسسات الجديدة، مثل المجالس المحلية التي ظهرت في المناطق التي تخضع لسيطرة المعارضة، لتؤدي دوراً في تحقيق الاستقرار، ما تزال قيد البحث.

إن الكشف عن تعقد حوافز وولاءات مختلف الجماعات المسلحة، على جانب النظام وجانب المعارضة، وعلاقتها بالمؤسسات المختلفة، التابعة أو غير التابعة للدولة، سيمكّن صانعي السياسات وأصحاب المصلحة الآخرين في الصراع من فهم الأسباب الكامنة وراء دعم أو معارضة المجتمعات المحلية مختلف الجهات الفاعلة المسلحة أو تأرجحها في ما بينها.

في ضوء هذا السياق جاء تصميم مشروع «سورية من الداخل». إنه مشروع يطرح أسئلة صعبة ودقيقة يجب طرحها حتى يمكن مساءلة صناع القرار عن سياساتهم تجاه سورية. إن الهدف الرئيسي للمشروع هو تقديم تحليل للعلاقات المتغيرة بين الجماعات المسلحة والمجتمعات المدنية، بخاصة المحلية، والمؤسسات التابعة وغير التابعة للدولة في مواقع جغرافية مختلفة من سورية، كوسيلة لكشف الديناميات الجديدة التي سوف يكون لها تأثير مباشر في مستقبل سورية (على مستوى الناس، والجهات الفاعلة المسلحة والمؤسسات). ويقدم المشروع الدراسات الوثيقة للأنماط المتغيرة (الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية) لكل جماعة ومجتمع في مناطق مختلفة من سورية لتحليل الديناميات المتطورة في البلد. هذا الفهم للديناميات، بدلاً من التركيز على لقطات من الصراع، يهدف إلى أن يكون بمثابة قاعدة أدلة لاستكشاف المزيد من الاستجابات السياسية الأكثر دقة للنزاع السوري.

والمهم هنا الإشارة إلى أن المشاركين في المشروع هم في المرتبة الأولى من السوريين، لأنه لا يزال هناك نقص في الأصوات السورية المرتبطة بأرض الواقع في المجال العام في الغرب، وهذا تقصير تتحمل مسؤوليته الأوساط السياسية والتحليلية الغربية التي غالباً ما تعتمد على التعاون مع أولئك الذين يتقنون اللغات الأجنبية مثلاً أو الأشخاص المعروفين بدلاً من فتح أبوابها لأصوات متعددة جديدة.

أما هل سيؤدي المشروع إلى تغيير السياسات الغربية تجاه سورية أم لا، فسوف يظل هذا سؤالاً مفتوحاً. فسياسة الولايات المتحدة في سورية في ظل الرئيس دونالد ترامب تبدو وكأنها امتداد لسياسة سلفه باراك أوباما، حيث يحتل الصراع السوري مكاناً في أسفل القائمة، وينحصر في القتال ضد «داعش». أما سياسة المملكة المتحدة فتبدو غير موجودة، وفي انتظار إشارة من واشنطن، بينما يهتم الاتحاد الأوروبي بالقدر الأكبر بالقضايا الإنسانية، فضلاً عن إعادة الإعمار بعد انتهاء الصراع، ويبدو أنه يتجاوز البعد السياسي تماماً. ولكن على أقل تقدير، فإن مشروعاً يعتمد على الأصوات السورية للفت الانتباه إلى ما يجري على أرض الواقع في سورية يعني أن صناع السياسات الذين يبنون خياراتهم على التبسيط المفرط للوضع لن يمكّنهم التذرع بغياب المعرفة أو التحليل لتبرير خياراتهم. وإذا لم يتسنّ تغيير السياسات، فإن المشروع على الأقل يمكن أن يلعب دوراً في المطالبة بالمساءلة العامة للمجتمع السياسي في الغرب.
 
 
* كاتبة لبنانية ورئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في معهد تشاتام هاوس - لندن