التاريخ: آب ٢٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
ماكرون يفضّلها «بونابرتية»... فهل يُعمّق أزمة الديموقراطية؟ - وحيد عبدالمجيد
تراجع كبير في شعبية الرئيس إيمانويل ماكرون بعد ثلاثة أشهر فقط على توليه الرئاسة في 14 أيار (مايو) الماضي. ليست الإجراءات التقشفية وحدها السبب في أسوأ تدنٍ في شعبية رئيس فرنسي، في بداية ولايته، منذ أكثر من عقدين. ربما تكون صدمة أعداد متزايدة من الفرنسيين بسبب طريقته الأحادية في إدارة السلطة أكثر تأثيراً.

فاجأ ماكرون الفرنسيين باستيائه من الإعلام، وغضبه على من يخالفه الرأي، وتعديه على دور الحكومة وتهميش رئيسها، وقسوته على رئيس الأركان حين أبدى رأيه حول خفض موازنة الجيش.

لم يفعل شيئاً مما توقعه من راهنوا عليه، وتمنوا أن يتمكن من ضخ دماء جديدة في الطبقة السياسية، ويُقدّم نموذجاً في تجديد النظام الديموقراطي، ومعالجة الاختلالات التي أدت إلى جمود المؤسسات الديموقراطية، وتراجع الثقة في الأحزاب.

بدا ماكرون مؤهّلاً لأداء هذا الدور كونه شاباً ذا خلفية تكنوقراطية غير منبتة الصلة بعالم السياسة، لكنها ليست غارقة في أوحاله التي راكمها جمود النظام الديموقراطي. وخلفيةٌ كهذه تُغري بالرهان على دور يجوز وصفه بأنه تاريخي في لحظة فارقة يتراجع فيها الاقتناع بفاعلية الديموقراطية ونفعها، بسبب ضعف أداء مؤسساتها، والركود الذي انتابها على مدى أكثر من عقدين، وتورط عدد متزايد من الساسة التقليديين في قضايا فساد أخذت تتزايد بما خلق شكوكاً في جدوى إجراءات المراقبة والمساءلة التي تُميّز النظام الديموقراطي.

لم ينخرط ماكرون، حين بدأ صعوده، في مؤسسات النظام. مر عليها مرور العابرين، وكأنه قصد أن يقدّم نفسه كمن «يتطهر» من أوزارها، فحافظ على مسافة مع الحزب الاشتراكي حين التحق بحكومته، ثم استقال من منصبه الوزاري، وأسس كياناً جديداً فيه شيء من الحركة السائلة ومن الحزب في آن.

وفي غضون أشهر شق طريقه إلى رئاسة فرنسا، ثم قاد حزبه أو حركته إلى فوز كبير في الانتخابات التشريعية في 1 و8 حزيران (يونيو) الماضي، معتمداً على وجوه جديدة معظمها شبان، ومُبشّراً بولادة ظاهرة جديدة يمكن أن تحقق ما راهن عليه أنصار الديموقراطية.

غير أن هذا الرهان بات في حاجة إلى مراجعة بعد ثلاثة أشهر أمضاها في الإليزيه، وظهر خلالها ما قد يدل على أنه ليس منشغلاً بالدور الذي تصور أنصار الديموقراطية أنه مؤهل له.

سلوكه الرئاسي يشي بأنه قد لا يكون معنياً بقواعد النظام الديموقراطي، ناهيك عن أن يعمل لتجديده واستعادة الثقة به. ربما يدل هذا السلوك، منذ الطقوس التي صاحبت إلقاء خطاب النصر، وحتى مشهد الاحتفال بالعيد الوطني في منتصف تموز (يوليو)، إلى أنه يتصور نفسه «رئيساً – إمبراطوراً» على النمط البونابرتي (نسبة إلى بونابرت الأول وبونابرت الثالث نهاية القرن الثامن عشر وحتى ستينات القرن التاسع عشر). وربما كانت الإمبراطورة أوجيني في مخيلته حين أصر على دور رسمي لزوجته السيدة بريجيت.

وتحليل منهجه في تحديد الأولويات يؤدي إلى النتيجة نفسها. كانت رسالته الأساسية في حملته الانتخابية هي الإصلاح الذي فهم من اقترعوا لمصلحته، أو كثيرون منهم، أنه يعني أولوية تجديد المؤسسات، واستعادة الحيوية السياسية في المجتمع، وبلورة سياسات توازن بين متطلبات النمو الاقتصادي وخلق الوظائف، وضرورات الضمان الاجتماعي وتحسين ظروف العمل، وفتح نقاشات عامة حول هذه القضايا وغيرها.

غير أنه فاجأ الجميع بأن الإصلاح الذي يعنيه يبدأ بتوسيع صلاحياته، ومن ثم إضعاف المؤسسات الديموقراطية وليس إصلاحها وتفعيلها. فلم تمض أسابيع على إعلانه خلال الحملة الانتخابية إحلال زمن جديد يختفي فيه اليمين واليسار، حتى ظهر ميله إلى إضعاف الأحزاب واستهانته بدورها، بدل العمل لخلق الظروف اللازمة لإصلاحها. أما تجديد دماء الطبقة السياسية، فتبين أن المقصود به الطبقة التي تحيطه أو تتبعه.

وبعدما أبدى تبرمه بالإعلام، جمع مجلسي البرلمان اللذين لا يلتئمان معاً إلا في ظرف استثنائي، وألقى خطاباً يفيد مضمونه أنه أساء تفسير حصوله على غالبية كبيرة في البرلمان، واعتبره تفويضاً كاملاً لا يعرفه النظام الديموقراطي، وخرق تقليداً يقضي بأن يستمع إلى ردود ممثلي الكتل البرلمانية على هذا الخطاب الذي أظهر ميلاً إلى تجاوز صلاحياته. فقد اختزل تطوير أداء المؤسسة البرلمانية في خفض عدد أعضاء مجلسيها بنسبة الثلث، ولوَّح بالعودة إلى الشعب وإجراء استفتاء عام في حال تعطيل تشريعات أو إجراءات يرغب بتمريرها، ولجأ إلى الذريعة الشائعة في نظم ديكتاتورية وهي ضمان الاستقرار السياسي.

وهناك تفسيران لنزوع ماكرون هذا. الأول أنه ربما لا يرى جدوى في إنفاق وقت وجهد لإصلاح المؤسسات الديموقراطية، وتجديد دماء الطبقة السياسية بمجملها. والثاني أنه ربما يجد في حال هذه الطبقة وتلك المؤسسات فرصة سانحة ليكون هو رأس النظام غير المنازع، والمحور الذي تدور حوله الحكومة والبرلمان والأحزاب والقوى السياسية والاجتماعية.

وفي أي من الحالتين، يسقط الرهان على امكان أن يُقدّم ماكرون نموذجاً يعيد الثقة بالديموقراطية، فيما تزداد الشواهد على ولعه بالصيغة البونابرتية التي انتهت في تجربتها التاريخية نهاية مأسوية مهينة. هُزم بونابرت الأول هزيمة ساحقة في ووترلو في 1815، ومات منفياً في جزيرة سانت هيلانة. كما هُزم بونابرت الثالث شر هزيمة في سيدان في 1870، ومات منفياً في انكلترا.

وليس ماكرون أول من تطلع لأن يكون «بونابرت رابعاً»، سواء بوعي أو من دونه. لكن من سبقوه كانوا على رأس نظم ديكتاتورية أصلاً.

غير أن أكثر ما يثير التأمل مقروناً بالاستغراب في حال ماكرون أنه لا يقدّر قيمة أن يكون هو شخصياً ظاهرة سياسية جديدة «ماكرونية» تُقدّم نموذجاً ملهماً يعبر حدود فرنسا، ويساهم في تجديد دماء الديموقراطيات الغربية، واستعادة النظام الديموقراطي رونقه في العالم، بل يُفضّل السعي إلى إعادة إنتاج ظاهرة سياسية قديمة مستسلماً لإغراء أن يكون فوق الجميع. ولا يقل إثارة للاستغراب عدم استيعابه دروس التاريخ الذي يخبرنا أن أي بونابرت يمكن أن يرتفع فوق الجميع لسنوات، ولكنه لا يلبث أن يهوي من علٍ، وأن حصاد البونابرتية يكون مراً في النهاية، مهما كان مذاقها حلواً لمن يغريه السلطان في البداية.