التاريخ: آب ٢٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
خلف «داعش» اللبناني امرأة تعيش بين خوفين - حازم الامين
لـ «داعش» أشلاء، وهي ليست أشلاء قتلى، إنما أشلاء حية لجماعة. وبما أن التنظيم على أبواب هزيمة تعقبها ولادة، باشرت مجتمعات عدة التفكير بـ «داعشها»، ذاك أن التنظيم المسخي ليس واحداً، وولادته تمت من أرحامٍ كثيرة. كتب أوليفيه روا عن «داعش» الأوروبي، وخلص إلى أنها ظاهرة أوروبية، وثمة محاولات لتناول الاستثناء التونسي بما يتعلق بالالتحاق بـ «داعش». ولكن ماذا عن «داعشنا» في لبنان؟ ثمة مئات من الملتحقين، ومئات حاولوا بلوغ الخلافة وعجزوا. وفي ترتيب عدد الملتحقين نسبة إلى السكان، يتربع لبنان في مرتبة عالمية لا بأس بها.

الملامح «الوطنية» للملتحقين اللبنانيين بالتنظيم توحي بأنه ورث فشلاً متراكماً وجوهرياً جعل البيئة الولادة للمهاجرين إليه أكرم مما يتصوره لبناني. فخلال تجوال المرء في أرجاء هذه البيئة لن يتفادى الشعور بأن السياق الطبيعي والمنطقي لسيرة أي شاب من هذه المناطق سيفضي حكماً إلى «داعش»، ومن لم تفضِ بهم مساراتهم إليه، وهم الغالبية طبعاً، فهم ناجون بحكم المصادفات، لكنهم أيضاً أسرى مسارات مفتوحة على احتمالات موازية.

قيل الكثير عن الفقر والحرمان في شرق طرابلس، وهي المناطق التي أرسلت أكثر من 90 في المئة من لبنانيي التنظيم إلى الرقة. لكن الفقر هناك يعمل وفق منظومة تكفلت باستمراره. فهو أبقى الناس عالقين بين بؤس حديث تحفه قيم تدين مفتوح على احتمالات «الجهاد» بصفته نجاة، والتصدعات العميقة التي خلفتها فوضى التحديث.

في العائلة الطرابلسية التي أنجبت ملتحقاً بالتنظيم، خوف سابق على فعل الالتحاق. خوف يمكن الإنصات إليه في صوت الأم، ووجه الشقيقة المرتعد، وصمت الشقيق وحيرته. ووسط تخبطك بمصادر الخوف هذه عليك أن تُدرك غياب الأب، والأخير ليس ميتاً ولا منفصلاً عن الأم، لكنه غائب، ولا أثر له في الرواية الأولى للعائلة.

في أكثر من عشر سِيَر لفتية طرابلسيين التحقوا بالتنظيم أمٌ متضخمة وأب غائب. أم إيجابية وأب سلبي. أم احتضنت العائلة بعد خروج الأب إلى الشارع وعيشه فيه متبطلاً وعنيفاً أو فاشلاً وعاجزاً. لم يجر انفصال عن العائلة، إنما تردد عنيف عليها. الأم هناك هي مُسكة العائلة، لكنها ليست قوية وطاغية، إنما ساعية إلى حماية الأبناء من أبيهم المباشر أو من فكرة الأب الشرير. أمٌ ضعيفة لكنها مصدر الحب في العائلة، بينما القوة الكامنة في حضور الأب قوة شريرة وقاهرة لفتوة الأبناء ولمراهقتهم.

يشعر المرء بأن في التحاق الفتى بـ «داعش» نوعاً من الانتقام للأم. فالفتية حين يتحدثون عنها، يفعلون ذلك بحب كبير لا ينسجم مع أفعالهم أو مع ما يسعون إليه من أفعال. أما الأب فهو المجتمع الذي يكفّرونه، و «الجاهلية» السائدة التي يسعون إلى الانقضاض عليها. وهذه المعادلة ليست إسقاطاً بعيداً لفكرة على واقع، إنما هي موجودة وبكثافة في معظم سِيَر «المهاجرين اللبنانيين».

أربع أمهات طرابلسيات منتحبات على أبنائهن الذين قتلوا في الرقة قلن لي أنهن مَن أرسلن أبناءهن في أول مراهقتهم إلى المسجد مخافة أن يصبحوا شاربي خمور كآبائهم، وفي المسجد جُندوا في التنظيم الإرهابي. وفي حديث الأمهات عن أبنائهن، مقدار من التأنيث، وهو تأنيث يمكن رصده في أصوات الأبناء ووجوههم التي تظهر في فيديوات أرسلوها لأمهاتهم من الرقة أو الموصل. والأنوثة هنا ليست جندرية أو جنسانية بمقدار ما هي أمومية. فالأم تظهر في وجه ابنها وصوته، وأيضاً في عنفه وفي موته انتحاراً بحزام ناسف. وهنا علينا أن ننتبه إلى أن الانتحار بصفته فعلاً «غيرياً» كان من نصيب النساء، فالرجال لا ينتحرون في الحروب، ما يسمح بالمغامرة بالقول أن انتحار «الداعشي» لا يخلو من دوافع ليست ذكورية على الأقل.

ثمة امرأة خلفتها الأمهات في وجدان أبنائهن الملتحقين بالتنظيم، وغير الملتحقين أيضاً. امرأة لا تخطئها عين. هي أحد ملامحهم وليست كلها طبعاً. لكنها امرأة ملحة وحاضرة ومُستدرجة إلى الانتقام. وهم إذ يدركون كم هي ضحية، يقصرون تناولهم آباءهم في الفيديوات المرسلة من الرقة على نصائح بالتوبة وعدم منع الأشقاء من الجهاد والشقيقات من النقاب.

«داعش» اللبناني ابن هذا الانتقال من الفقر إلى الفقر. من نوع من الفقر المنظم والمُستوعب في حياة آباء («شاربي خمر» زهيد الثمن) إلى أبناء راغبين في «الجهاد». وبين الفقرين زوجة وأم، الأولى تخاف من زوجها والثانية تخاف على ابنها. «داعش» اللبناني ولد بمعنى ما بين هذين الخوفين.

ليس هذا ذهاباً في التفسير بعيداً من الوقائع المباشرة. فالسِير التي تضم هذه الوقائع تغذي قناعة مفادها أن داخل معظم الملتحقين بالتنظيم أماً «إيجابية» وأباً «سلبياً»، أماً هي الفطرة التي يجب أن يبدأ منها كل شيء، وأباً غريزياً يجب محوه وطرده. «الخلافة» بصفتها لحظة ولادة وعودة إلى أصل الدعوة، تتسع لهذه الأم، بينما الأب يصلح لأن يكون ما طرأ على «الخلافة» من زيف وجهل وكفرٍ، وهذا ما يجب محوه وقتله.

وطرابلس إذ بلورت هذه المعادلة في تحولاتها الكبرى والمأسوية منذ أكثر من أربعة عقود، بقيت مقيمة، حين انتقلت بأجيالها من طور إلى طور، على خوفها من التحديث، فسلمت فقراءها أمانة الماضي وأوكلت إليهم حمايتها، فيما رعى أغنياؤها مهمة الفقراء هذه، وحرصوا على إبقائهم فقراء لكي يستمروا بالمهمة. وكلما شعر غني بذنب ناجم عن بذخه، عاد إلى طرابلس وبنى لفقرائها مسجداً.

الخوف أصلي وجوهري في العائلة المتشكلة في هذه المأساة. هند، وهي شقيقة امرأة طرابلسية اصطحبها زوجها إلى الرقة، قالت لي أنها وشقيقاتها الأربع المتزوجات وشقيقها الوحيد كانوا يرغبون، بعدما تفرقت بهم سبل الحياة، في ترك أزواجهن واستئجار منزل ليعشوا فيه مع بعضهم، وذلك ليس لأنهن يكرهن أزواجهن، إنما رغبة في استئناف الحياة في العائلة الأولى، تلك التي أنشأتها أمّهم، والتي شعروا فيها بأن الشر مقيم خلف باب المنزل تماماً. وتقول هند إن ما شعروا به كان صحيحاً، فها هو زوجها في السجن وشقيقتها في الرقة، وهي عاملة تنظيفات تخرج صباحاً ولا تعود إلى أطفالها إلا في المساء.