ودعت رئاسة الجمهورية المصرية والأحزاب والقوى السياسية والنخب والكنائس المصرية المناضل اليساري رفعت السعيد، أحد أهم السياسيين المصريين في الأربعين عاماً الأخيرة، وهي تقريباً عمر الحياة الحزبية الضعيفة التي سمح بها الرئيس أنور السادات منذ عام 1976، وامتدت حتى اليوم من دون أن يشعر بها غالبية المواطنين أو تحقق تداولاً حقيقياً للسلطة.
الإجماع الوطني العام على أهمية الأدوار السياسية والفكرية والصحافية التي كانت لرفعت السعيد (1932-2017) لم تمنع البعض من انتقاد بعض مواقفه من نظام الرئيس حسني مبارك وإدارته لحزب «التجمع» الذي هيمن على قياداته لسنوات طويلة، إلى أن تولى رسمياً رئاسة الحزب عام 2002 بعد تقاعد مؤسسه التاريخي الضابط الماركسي خالد محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة ورفيق عبدالناصر والسادات.
لكن انتقاد الرجل لا يعني الشماتة في موته كما فعل كثر من رموز «الإخوان» عبر تصريحات وتدوينات غريبة تتناقض مع العادات والتقاليد المصرية، فضلاً عن تعارضها الصريح مع تعاليم الإسلام. والغريب أن فعل الشماتة في موت الخصوم وحدوث بعض الأزمات أو الكوارث في مصر أصبح ممارسة «إخوانية» عادية تكشف عن لا أخلاقية الجماعة ونزعتها الانتقامية من نظام السيسي ومن خصومها السياسيين، على رغم أن الشعب المصري هو الذي يتضرر من تلك الأزمات والكوارث.
خصومة رفعت السعيد مع «الإخوان» حقيقة ثابتة، وموقف راهَنَ عليه الرجل سياسياً، وظهر إلى العلن بقوة منذ منتصف الثمانينات، وعبَّر عنه في كتاباته الصحافية ومؤلفاته الفكرية، فالسعيد هو من صكَّ تعبير «التأسلم السياسي» لوصف ظاهرة خلط وتوظيف «الإخوان» والجماعات الإسلامية للدين في السياسة، وحذر من إفساد المجال العام والفضاء السياسي بسبب هذا الخلط، واعتبره أحد أهم أسباب الانقلاب على قيم وآليات التحديث والتنوير في المجتمع، علاوة على إخراج اليسار من العملية السياسية. لذلك كانت قناعة السعيد بأن محاربة «التأسلم السياسي» تتقدم أهداف النضال السياسي لليسار وفي قلبه حزب «التجمع»، الذي شارك في تأسيسه عام 1976 مع خالد محيي الدين وتولى رئاسته رسمياً لـ11 عاماً قبل أن تسند إليه رئاسة المجلس الاستشاري للتجمع، وهو دور لم يختلف كثيراً عن رئاسة الحزب.
محاربة «التأسلم السياسي» قاربت بين حزب «التجمع» ونظام مبارك. وهي سياسة أدت إلى تحول «التجمع» من أهم حزب معارض لسياسات الرئيس السادات إلى حزب يساري معتدل أقرب إلى يسار الوسط. ووفق تعبير السعيد، فإن معارضته السادات كانت أكثر جذرية من معارضته مبارك. لكن هذا التحول في مواقف السعيد وحزب «التجمع» أدى إلى تراجع صدقية الحزب وانحسار عضويته ودوره في الشارع ومن ثم ظهور تصدعات وانشقاقات عدة، إذ اتهمه بعض رفاقه بأنه قام بـ «إخصاء» اليسار المصري بالتعاون مع الدولة، أو بالأحرى بالتعاون مع أجهزتها الأمنية. وتوالت اتهامات شباب اليسار خصوصاً حركتي «كفاية»، و «6 أبريل»، إذ أكدتا أن «التجمع» كحزب يساري خرج عن مساره الطبيعي وتنصَّل من تاريخه، فلم يعد مدافعاً عن الحريات أو محاربة الفساد وتحقيق العدالة الاجتماعية كما ينص برنامجه. وإنما صار مؤيداً وبلا شروط لحرب نظام مبارك على «الإخوان» والجماعات الإسلاموية، وهي حرب ليست جادة أو شاملة. وأكد منتقدو «التجمع» أن الحزب يركز على محاربة التأسلم والإرهاب ولا يحارب الفساد وقمع الحريات، على رغم أن الظلم الاجتماعي والفساد وقمع الحريات هي آليات لتفريخ حركات التأسلم السياسي والإرهاب، وبالتالي لا بد من انتهاج الحزب واليسار المصري عموماً استراتيجية شاملة للتغيير السلمي.
لكن «التجمع» تحت قيادة السعيد كانت له رؤية مغايرة ومواقف ثابتة، ترى أولوية محاربة توظيف الدين في السياسة والحفاظ على الوحدة الوطنية ودولة المواطنة، ورفض تمثيل «الإخوان» والجماعات الإسلاموية أو إشراكها في العمل السياسي إلا في ضوء ضوابط واضحة وإقرار منها بفصل الدين عن السياسة. وهو فصل كان رفعت السعيد يرى أنه أمر مستحيل لأن منهج «الإخوان» وتلك الجماعات قائم على نظرة شمولية تدمج بين الدين والسياسة، ولا تميز بين المجالين العام والخاص.
والحقيقة أن منتقدي رفعت السعيد يختزلون «التجمع» في شخصه، وكأن مواقف الحزب هي تعبير عن أفكار ومواقف السعيد، وبالتالي يحمّلون الرجل كامل المسؤولية عن تراجع تأثير الحزب، من دون أي نظرة الى العوامل الموضوعية التي أحاطت بـ «التجمع» والأحزاب المصرية في سنوات حكم مبارك الأخيرة وحتى اللحظة الراهنة. القصد أنه مهما كان دور رفعت السعيد كبيراً ومهيمناً على الحزب، فإنه لا يمكن تحميله كامل المسؤولية أو اتهامه بتخريب «التجمع» واليسار المصري كما يذهب البعض، لأن رفعت السعيد كان تعبيراً عن جناح من اليسار والنخبة العلمانية (المدنية بالتعبير المصري الشهير) يساوي بين «الإخوان» و «التأسلم السياسي» (الإسلاموية) والإرهاب، ويرى هذا الجناح أن «التأسلم» هو أشد خطر يهدد الدولة المصرية الحديثة. وفي إطار التصدي لهذا الخطر تبنى السعيد نظرية السقوف المنخفضة التي يرى فيها الكاتب الإسرائيلي يوسي أميتاي نضجاً فكرياً في تحليل الماركسية بشجاعة وفي شكل غير دوغمائي بحيث ينصح السعيد رفاقه اليساريين بمنح الأولوية في العمل السياسي لمعطيات الواقع فوق الرؤية الأيديولوجية الجامدة.
قادت السقوف المنخفضة رفعت السعيد إلى عقد صفقات مع نظام مبارك والمجلس العسكري والنظام الحالي لمحاربة «التأسلم السياسي» ولفتح مجالات حركة وفرص أمام العمل السياسي لـ «التجمع»، لكن ذلك لم يمنح «التجمع» حضوره وتألقه اللذين كانا له عند تأسيسه عام 1976. ويبدو أن «التجمع» سيواجه مصيراً صعباً بعد رحيل السياسي القوي والمناور البارع الذي كان يمتلك خيوطاً وعلاقات مع أجهزة الدولة والحكومة والأحزاب، علاوة على علاقات عربية ودولية، كان يعرف جيداً كيف يوظفها ويستفيد منها لمصلحة الحفاظ على ما تبقى من «التجمع». من هنا، فإن غياب السعيد المفاجئ قد يؤدي إلى ظهور مشكلات داخلية بدأت بالحديث عن تأجيل مؤتمر الحزب المقرر في الشهر المقبل والذي كان مقرراً فيه إجراء انتخابات لرئيس وقيادات الحزب. من جانب آخر، فإن غياب السعيد سيحرم منتقدي «التجمع» وجماعات اليسار المتشدد من وجود شخص وشماعة يمكن أن يعلقوا عليها أسباب فشل اليسار.
في الأخير، أعتقد أن رفعت السعيد هو شخصية وطنية فريدة، ومناضل صلب بدأ حياته راديكالياً يحلم ويعمل من أجل تغيير العالم على غرار النموذج الماركسي، وانتهى به المطاف سياسياً معتدلاً يحاول إصلاح العالم، وهو نمط متكرر لمسار ومسيرة كثر من مناضلي اليسار في العالم، لكن السعيد يظل رمزاً مميزاً من رموز اليسار المصري والعربي كتب تاريخه عبر محطات صعبة وغرائبية إلى حد كبير، تحتاج إلى تأمل ودراسات علمية رصينة. فقد انخرط في صباه في «الحركة الديموقراطية للتحرر الوطني» (حدتو) واعتقل في العصر الملكي وكان في السادسة عشرة من عمره، ثم اعتقل مرتين في زمن عبدالناصر، واعتقل في عهد السادات بينما دخل مجلس الشورى (إحدى غرفتي البرلمان) عضواً معيناً في عصر مبارك. وفي الستينات، عمل في الصحافة وفي مجلس السلام العالمي.
ويبدو أنه كان متأثراً كغالبية قيادات اليسار المصري والعربي بفكرة تجسيد المثقف العضوي، لذلك تعددت اهتماماته الفكرية والسياسية وكتاباته الصحافية واستكمل تعليمه وحصل على الدكتوراه من جامعة ليبزيغ في ألمانيا الشرقية في تاريخ الحركة الشيوعية المصرية. فهو أرَّخ لتطور الفكر الماركسي والتنظيمات اليسارية والصحافة اليسارية، وهي موضوعات تثير إشكاليات كثيرة تتعلق بالكتابة التاريخية عن حوادث وتنظيمات كان السعيد مشاركاً فيها، وطرفاً في الخلافات والصراعات التي شهدتها.
واهتم رفعت السعيد بدراسة سير شخصيات لعبت أدواراً مهمة في تجديد الثقافة المصرية والتبشير بالفكر الاشتراكي، وفي مرحلة تالية تبدأ من الثمانينات، انشغل بالكتابة عن «الإخوان» وظواهر التأسلم السياسي واقتحم موضوعات كانت بعيدة من اهتماماته تتعلق بالتراث وتفسير بعض النصوص، وذلك كله في إطار محاججة «الإخوان» و «المتأسلمين». من هنا، فإن بعض إسهاماته عن التأسلم وتحليله النقدي لحسن البنا ولحركة «الإخوان» قد تحتاج إلى مراجعة بعيون باحثين غير متورطين في الصراع السياسي الصاخب والمعارك المتواصلة بين رفعت السعيد و «الإخوان». * كاتب مصري |