التاريخ: آب ٢١, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
ضحايا المسألة الكردية العالقة - عمر قدور
في أقوى إشارة ضد الاستفتاء على استقلال إقليم كردستان العراق، المقرر في الأسبوع الأخير من الشهر المقبل، اجتمع رئيسا أركان إيران وتركيا للمرة الأولى منذ وصول الملالي إلى سدة الحكم في طهران. عقب الاجتماع أتت التصريحات واضحة لتُنذر الأكراد باندلاع «حرب أهلية»، ما يعني تصدي الحكومة العراقية التي تسيطر عليها طهران للنزوع الاستقلالي، بعد أن كان موقف بغداد يتسم بالتهدئة عموماً مع التمني على رئاسة الإقليم عدم المضي في تنظيم الاستفتاء.

يُذكّر الاجتماع التركي- الإيراني بما كان يُعرف باجتماعات «دول جوار العراق»، أثناء الحصار المفروض على نظام صدام ومن ثم إسقاطه. الاجتماعات التي ضمت في شكل رئيسي إيران وتركيا وسورية كانت آنذاك تهدف إلى احتواء الموضوع الكردي، واحتواء آثار التطورات في كردستان العراق على الدول التي تتقاسم الوجود الكردي في المنطقة. يُذكر أن سلطة بشار الأسد استغلت أحداث شغب رياضي في مدينة القامشلي عام 2004، قبيل عيد النوروز بنحو تسعة أيام، لإطلاق النار على الأهالي عشوائياً، وفي ما بعد، الرد على تظاهرات الاحتجاج بإدخال قوات خاصة إلى المدينة واستهداف المتظاهرين، واعتقال عدد كبير من الناشطين في رسالة واضحة كي لا يستقوي أكراد سورية بالتقدم الحاصل في الموضوع الكردي العراقي.

على المقلب التركي، لم تكن المخاوف أقل لكنها طُمست بسبب الاختلاف بين حكومة حزب العدالة الإسلامية ورئاسة أحمد نجدت سيزار «الكمالي» الذي تقف خلفه المؤسسة العسكرية. ضمن ذلك التجاذب، كانت قيادات حزب العدالة تَعِد الأكراد باستئناف نهج الرئيس الأسبق تورغوت أوزال في الاعتراف ببعض الحقوق الكردية، وربما استئناف واقعية رئيس الوزراء الأسبق مسعود يلماظ الذي صرح يوماً بأن الطريق إلى الاتحاد الأوروبي يمر بديار بكر «المعقل الكردي». عموماً، كانت السياسة المعلنة لحزب العدالة تُبشّر بخيار ديموقراطي مختلف عن الخيار الكردي في العراق، عماده دخول البلاد بأتراكها وأكرادها منظومة الديموقراطية الغربية.

في الصندوق الأسود الإيراني، تتوارى القضية الكردية ضمن منظومة أوسع من القمع الذي يطاول المختلفين إثنياً أو مذهبياً أو سياسياً، فتكاد الأخبار التي تقتصر على إعدام ناشطين أكراد أن تكون هي الوحيدة، على رغم عدم وجود قضية كردية ساخنة على السطح. وكما فعلت سلطة الأسد طوال عقود، لا يجد حكم الملالي تناقضاً بين قمع الأكراد في الداخل ودعم تنظيم حزب العمال الناشط في تركيا، كلما تأججت الخلافات مع الأخيرة، مع التذكير بأدبيات الحزب المذكور التي نصّت مبكراً على تحالف موضوعي بينه وبين سلطتي طهران ودمشق دعماً لمعركته الأساسية في تركيا. التلويح بحرب أهلية، إذا أقرّ الاستفتاء استقلال الإقليم، ربما يلحظ وجود حزب العمال في جبال قنديل والعلاقة المتوترة بين «البرزانية» و «الأوجلانية»، وإمكانية تفجر الصراع بينهما.

بالعودة إلى اجتماع رئيسي الأركان التركي والإيراني، يستقوي الطرفان بموقف أميركي معارض لاستقلال الإقليم، وبمباركة روسية للتنسيق بينهما هي امتداد للتنسيق الذي بدأ في الملف السوري ضمن مسار آستانة. وكما هو معلوم شهد الموقف التركي من الملف السوري انعطافة قوية على خلفية التخوف من تمدد سيطرة الفرع السوري لحزب العمال على مساحات واسعة، بخاصة على خلفية اعتماده من قبل الإدارة الأميركية في حربها على داعش. يمكن الجزم بوجود مقايضة تخفف بموجبها الحكومة التركية من عدائها سلطة بشار، مقابل الاتفاق على تحجيم قوة وطموحات الفرع السوري لحزب العمال الذي تنسق قياداته مع طهران ووكيلها في دمشق.

واستخدم نظام الملالي ووكيله السوري القضية الكردية في تركيا وسورية استخداماً مزدوجاً، للضغط الذي أثبت فاعليته على الحكم التركي، وأيضاً للتلويح بخيار تقسيم سورية عندما كانت سيطرتهما العسكرية في أسوأ حالاتها. وبعد التدخل الروسي الذي قلب المعادلة في الميدان لم يتوانَ مسؤولو بشار عن السخرية من طموحات الإدارة الذاتية الكردية في الفيديرالية، ولم يتوانَ مسؤولو الإدارة الذاتية عن التلويح بتسليم مناطق سيطرتهم إلى قوات بشار في حال تعرضهم للمهاجمة من قبل القوات التركية.

مؤخراً صرح قائد الفرع السوري لحزب العمال بعدم وجود وعود أميركية لهم لما بعد التخلص من داعش، ولا تستبعد التوقعات أن يكون الأكراد قد دفعوا ثمناً باهظاً بلا مقابل مناسب، بسبب استخدامهم المتعدد الأطراف والغايات. هذا الثمن لا يقتصر على سورية، فعودة القتال بين الجيش التركي ومقاتلي الحزب أودت بحياة الآلاف، وتسببت بدمار هائل لبعض مناطق الوجود التركي، مثلما أطاحت فعلياً الوجه السياسي للقضية متمثلاً بحزب الشعوب الديموقراطي وأعادت القضية برمتها عشرين عاماً إلى الوراء.

يُراد لإقليم كردستان العراق أن يدفع ثمن القضية الكردية في الجوار، على رغم كونه يتمتع باستقلال فعلي، ولن تقرر الموافقة الشعبية على الانفصال سوى ما هو حاصل. التخوف من رمزية الاستقلال والدفع المعنوي الذي قد يتسبب به هو ما يؤرق أنظمة الجوار، فلا تستثني التهديد بالعمل العسكري لمنعه. لكن طوال ما يقارب القرن من انهيار الإمبراطورية العثمانية لم تفلح حكومات الدول الأربع في إنهاء المسألة الكردية، وظل شبح قيام دولة كردية مستقلة على أي جزء منها يطارد الجميع.

وإذا أعطت عمليات التجييش القومي مشروعية شعبية لسلوك تلك الأنظمة إزاء القضية الكردية، فمن المؤكد أن الأكراد لم يكونوا وحدهم ضحايا إبقاء المسألة الكردية عالقة. ففي الدول الأربع، مع منح تركيا بعض التمايز بسبب ديموقراطيتها (الانتقائية) ومترتبات وجودها في حلف الناتو، دفعت الشعوب ثمن غياب الحل الديموقراطي للمسألة الكردية بغياب الحل الديموقراطي لكل قضاياها، وليست قليلة المناسبات التي كان فيها إسكات الأكراد مدخلاً لقبضة مخابراتية خانقة للجميع.

الآن لن يكون مستغرباً اجتماع القوى الرافضة للتغيير في المنطقة على الوقوف ضد استقلال الإقليم، ومن المؤكد أن يجد قسم من الأكراد ذلك مناسبة أخرى لتعزيز المظلومية الكردية، من دون التفكر في أوضاع شعوب الدول الأربع التي لا تسرّ سوى سلطاتها. مثلما من المؤكد ألا يتفكّر في المستقبل القريب كثرٌ من تلك الشعوب في ذلك الرابط بين الخوف من حرية الأكراد والخوف من الحرية عموماً.