يسود نوع من الإحباط، وفقدان الأمل، في أوساط السوريين، وضمنه في الأوساط المعارضة، بحكم المآلات المأساوية والكارثية التي آل إليها الصراع السوري، والتي تسبّب بها توحّش النظام، الذي استخدم كل ما في ترسانته الحربية من أسلحة، للقتل والتدمير، بطريقة لم يكن يتخيّلها أحد، وذلك في سياق تحويله الصراع الجاري من صراع سياسي إلى صراع على الوجود، مع ترويجه شبهات الإرهاب والصراع الطائفي الهوياتي.
وبديهي أن ما فاقم ذلك فتح نظام الأسد البلد على مصراعيه أمام قوات الحرس الثوري الإيراني والميلشيات اللبنانية (حزب الله) والعراقية والأفغانية التي تشتغل كذراع إقليمية لإيران، وبعده التدخل الروسي (منذ أيلول- سبتمبر 2015)، بواسطة القصف بالطيران، للدفاع عنه، ولوأد تطلعات السوريين.
بيد أن حال الإحباط تلك ما كانت لتصل إلى عتبة فقدان الأمل (تقريباً)، لولا الخذلان الدولي والإقليمي والعربي للسوريين، والمشكلة أن هذا الخذلان كان مصحوباً بإنكار تضحياتهم ومعاناتهم، وحتى إنكار حقهم في الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، كأنهم ليسوا بشراً مثل غيرهم، أو كأن سورية مزرعة خاصة لعائلة الأسد، وليست دولة مثل غيرها.
لكن شعور السوريين بالإحباط، وربما باللا جدوى، أو بالتعب، أيضاً، بات بمثابة واقع لا أحد يعرف كيفية الخروج منه، حتى الآن، لا سيما مع عجز الأوساط المعارضة، التي لم تفلح حتى الآن، أي بعد أكثر من ست سنوات، في المهمات المفترض القيام بها، بخصوص بناء كيان سياسي وطني جامع، يكون، أولاً، ممثلاً لكل السوريين، بتنوعهم وتعدديتهم، بدل أن يمثل طيفاً أو أطيافاً معينة دون غيرها. ثانياً، معبّراً عن التطلعات الأولية الأساسية التي أطلق السوريون ثورتهم من أجلها، وهي الانتهاء من نظام الاستبداد، وليس من أجل إعادة إنتاجه بصورة أو بيافطات إيدلوجية أخرى. ثالثاً، مساهماً فعالاً في صوغ الهوية والاجتماعات الوطنية للسوريين، التي تتأسس على الحرية والكرامة والمواطنة والديموقراطية، عوض السكوت عن تغذية الهويات الطائفية والدينية والمذهبية والإثنية المتعصبة والمغلقة، مهما كان نوعها. رابعاً، منافحاً عن حقوق السوريين وأولوياتهم وأجندتهم، أي ليس راهناً إرادته لسياسات أو توظيفات هذه الدولة أو تلك. خامساً، وأخيرا فإن الحديث هنا عن كيان سياسي يشتغل وفق قواعد مؤسسية وتمثيلية وديموقراطية ونضالية، وعلى أساس المؤهلات المناسبة، ويستمد شرعيته من مجتمعات السوريين، في الداخل والخارج، وليس مجرد كيانات منغلقة على ذاتها، وتشتغل كمجرد موظفين، أو كمعارضة مكتبية، بمعزل عن شعبها.
إذاً، فإن حال الإحباط والشعور بانسداد الأفق والتعب ناجمة، أيضاً، عن عوامل ذاتية، بالإضافة إلى العوامل الموضوعية (النظام وحلفاؤه ولا مبالاة ما يسمى «الدول الصديقة»)، والمشكلة أن الأوساط المعارضة ما زالت عاجزة، أو لا تشتغل وفقاً لإدراك مناسب لأخطار هذه العوامل الذاتية، الآنية والمستقبلية، عليها وعلى الثورة وعلى السوريين أنفسهم.
هكذا، فإن الحديث على هذا النحو لمعرفة الذات، أو لنقد الذات، لا يقلل من أهمية التغيير الذي أحدثته التجربة السورية، بما لها وما عليها، في واقع السوريين. وهذا ما ينبغي ألا يفوت أحداً في غمرة الإحباط والغضب من الأوضاع المأساوية الراهنة.
فعلى رغم الأهوال التي عاشها السوريون، والأثمان الباهظة التي دفعوها، والتي تفوق التصور، استطاعوا، مع ضعف إمكانياتهم، وافتقادهم التجارب السياسية، كسر حال الاستعصاء في التطور السوري، أو كسر الصخرة الصلبة التي تقف حجر عثرة أمام محاولاتهم السير في طريق التطور السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، التي كان يمثلها نظام الأسد. ولم يعد من الممكن بأية حال، وبغض النظر عن التخريجات السياسية، استمرار نظام الأسد، على النحو الذي كان عليه، والذي كان يمكن أن يجد السوريون أنفسهم، ربما لنصف قرن أخر، مع حكم الأسد الثالث أو الرابع أو الخامس، أي أن الثورة السورية هي التي قطعت هذا المسار.
وعلى صعيد النظام أيضاً، فقد أنهت الثورة ما يسمى «الدور الإقليمي» والادعاءات القومجية للنظام، والذي كان من خلالهما يتلاعب بأوراق الآخرين (فلسطينيين ولبنانيين وعراقيين) لابتزاز الدول الأخرى أو للمزايدة عليها، كما في أغراض الاستهلاك المحلي وتعزيز سلطته الأمنية إزاء شعبه. وبطبيعة الحال فقد انكشف مع كل ذلك، أيضاً، زيف «المقاومة والممانعة» التي انتهجها النظام وحلفاؤه، (إيران وحزب الله)، بعد أن ثبت أن السلاح مرصود ضد السوريين وللدفاع عن النظام لا من أجل فلسطين ولا لاسترجاع الجولان السورية. والأمر ينطبق على حزب الله الذي انكشف تماماً دوره الإقليمي كذراع لإيران في المنطقة، وكشريك في الدفاع عن نظام الاستبداد، وكحزب ديني وطائفي (مع ميليشيا أبو الفضل العباس وكتائب عصائب الحق ونجباء وفاطميون العراقية. الخ).
لم يعد السوريون بعد الثورة كما كانوا قبلها، على رغم العورات أو السلبيات التي تكتنف ذلك، أي لم يعودوا على نمط واحد، إذ ظهروا بتنوعهم، وتعدديتهم، أو ظهروا كما هم فعلاً بهوياتهم الحقيقية، لا بهويات منتحلة وفق مسطرة النظام، وباتوا وجهاً لوجه في مواجهة أنفسهم وفي مواجهة بعضهم، بما لذلك من تأثيرات إيجابية أيضاً، وليس فقط سلبية، في ما يرى البعض. فوق كل ذلك بات صوت السوري مسموعاً، بعد عيش لعقود من دون صوت، أو في حالة خرس، في ظل الخوف المعشش في الصدور بسبب سياسات السيطرة والرعب التي انتهجها النظام ضد شعبه.
أخيراً السوريون دخلوا غمار السياسة، بسلبياتها وإيجابياتها، بطريقة سلمية وبطريقة عنيفة، وباتوا يحسون أنهم مواطنون وأنهم شعب، وهذه ليست مسألة ثانوية، إذ الثورة فعلت في سنوات قليلة ما تفعله عقود على هذا الصعيد.
هذه محصلة مريرة وصعبة لثورة يتيمة ومعقدة ومستحيلة، بيد أن التاريخ يعمل على هذا النحو المؤلم، والكارثي، في كثير من الأحيان، للأسف، ويأتي ضمن ذلك حقيقة أن الثورات قد تنتصر وقد لا تنتصر، كما أنها قد تحقق بعضاً من أهدافها، أو ربما تنحرف، لكنها في كل الأحوال تكون كسرت الصخرة التي تسد باب التطور، سواء المتعلقة بجمود المجتمع أو المتعلقة بجبروت النظام، أو بكليهما معاً. |