يبدو واضحاً أن الأزمة السورية دخلت مرحلة جديدة تتقاسم خلالها القوى الدولية والإقليمية مناطق النفوذ والهيمنة على حساب الشرعية السورية. بدأت هذه المرحلة بتوافق أميركي– روسي من خلال إعلان المنطقة الجنوبية- الغربية من سورية (تضم محافظات درعا والسويداء والقنيطرة) منطقة «خفض التوتر» الأولى، على أن يتبعها الإعلان عن مناطق أخرى، وأن يكون وسط سورية الذي يضم حمص المنطقة الثانية بعد الجنوبية، وقد بدأ بالفعل العمل على إقامتها.
يمكن اعتبار ما يجرى تقسيماً للبلاد، وهو وإن اختلف عن قرار الانتداب الفرنسي في تقسيم سورية عام 1920 إلى ست دويلات، فإنه سيؤدي حتماً إلى تلاشي السلطات المركزية لمصلحة قوى الوصاية الإقليمية والدولية، وسيكون لكل منطقة «بروتوكولها» الخاص الذي تضعه سلطة «الانتداب الجديد».
كيف بدأت هذه المرحلة؟ وما هي ارتداداتها على مستقبل سورية؟
سبق أن أعلن وزير الخارجية الأميركي ريكس تيلرسون في مؤتمر صحافي على هامش «قمة العشرين» في هامبورغ، بعد اجتماع الرئيسين دونالد ترامب وفلاديمير بوتين بأن الاجتماع أفضى إلى الاتفاق على وقف لإطلاق النار في جنوب– غرب سورية– بما في ذلك جبهة الجولان مع إسرائيل. واعتبر تيلرسون أن هذا التوافق «يشكّل أول نجاح لنا» وأنه يأتي نتيجة التعاون والتنسيق بين البيت الأبيض والكرملين. وكان تيلرسون استبق اجتماع الرئيسين بإعلان استعداد الولايات المتحدة لبحث آلية مشتركة مع روسيا، من أجل احتواء مجريات «الحرب الأهلية في سورية».
تعتبر مصادر أميركية أن الاتفاق على وقف إطلاق النار في هذا الجزء الحساس من سورية، اعتباراً من الأحد 9 تموز (يوليو) الماضي بداية لبلورة استراتيجية أميــركية تجاه سورية، وعلى الأقل فـــي المدى القريب، حيث أظهرت إدارة ترامب في وقت سابق لقمة هامبورغ رغبة في تجاوز عقدة رحـــيل بشار الأسد عن السلطة، في محــــاولة جادة لفتح صفحة جديدة للتعــاون مع روسيا، بعد التوتر الذي حدث إثر إسقاط الأميركيين مقاتلة سورية في منطقة دير الزور.
من تصريحات الوزير تيلرسون التي سبقت لقاء ترامب وبوتين في هامبورغ، ومن مضمون المؤتمر الصحافي اللاحق يبدو أن وقف النار في جنوب وغرب سورية ليس جزءاً من مقررات مفاوضات آستانة– 5، بل هو اتفاقية منفصلة تقتصر أطرافها على واشنطن وموسكو، مع مشاركة أردنية وإسرائيلية، مهّد لها الأميركيون في مفاوضات منفصلة، سبقت اجتماع هامبورغ بأسبوعين.
وهكذا يمكن الاستنتاج من المعلومات المسرّبة عبر مقال في صحيفة «هآرتس» الإسرائيلية نُشِر يوم الأحد 9 تموز (يوليو) الماضي أن الديبلوماسية الأميركية هيأت الأجواء اللازمة لإنجاح الاجتماع على هامش قمة العشرين بين ترامب وبوتين، وبالتالي فتح الباب لمرحلة جديدة من التعاون الأميركي– الروسي لإدارة الأزمة السورية، واحتواء تداعياتها الخطيرة على مسار الحرب على الإرهاب، وأيضاً ارتداداتها في مناطق حساسة على الحدود الأردنية مثل درعا وريفها والسويداء وعلى خط الفصل في الجولان بما فيه جبهة القنيطرة بعدما تكررت الاشتباكات على هذه الجبهة.
في رأينا يتركز الهدف الأساسي للاستراتيجية الأميركية الجديدة على أن تضمن الولايات المتحدة تحقيق هزيمة كاملة ونهائية لـ «الدولة الإسلامية» وتجاوز التساؤلات والشكوك حول من يسيطر على الرقة ودير الزور بعد تحريرهما. ولا يريد الأميركيون تكرار التجارب السيئة التي حصلت في العراق لجهة عدم توافر قوى مسؤولة قادرة على الإمساك بالأرض «المحررة» من سيطرة «داعش» وبالتالي منع الإرهابيين من الالتفاف والعودة إليها.
بالإضافة إلى هذا الهدف، هناك خشية أميركية من سباق بين القوى على الأرض، بما فيها قوات النظام والميليشيات الإيرانية، وبدعم من روسيا من أجل المشاركة في معركة الرقة. وستتولد جراء اختلاف القوى أثناء قتال ضار في جبهة واحدة حال من الفوضى، يُمكن أن تستفيد منها «الدولة الإسلامية» لإفشال العملية أو إطالة فترتها، وتكبيد قوات سورية الديموقراطية المدعومة أميركياً خسائر فادحة لا قدرة لها على تحملها.
من البديهي أن لا تسلّم الولايات المتحدة المناطق التي يستعيدها حلفاؤها من «الدولة الإسلامية» إلى نظام بشار الأسد. وتؤكد هذا الأمر مصادر رسمية أميركية، وهذا لا يعني أن أميركا ستنشر قواتها المسلحة لحماية وفرض الاستقرار والأمن في هذه المناطق، لكنها ستجهد لوضع ترتيبات أمنية وإدارية لهذه المناطق وتكلّف بتنفيذها حلفاؤها على الأرض.
أما في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، والتي ستشكل جزءاً من المنطقة الجنوبية، فإن الترتيبات التي سيجرى بحث تفاصيلها ستتولى القوات الروسية الإشراف عليها وحمايتها.
السؤال الذي لا بد من طرحه: كيف يمكن أن يتعايش الأطراف مع الاتفاق الأميركي– الروسي الجديد؟ كيف ستتعامل إسرائيل مع هذا الاتفاق؟ وهل ستحد من طلعاتها الجوية وقصف بعض مواقع النظام أو مواقع «حزب الله» في المنطقة الجنوبية أو في ضواحي دمشق؟
ما هو موقف إيران و «حزب الله» من الاتفاق في ظل جعل القنيطرة وخط الفصل في الجولان جزءاً من المنطقة الجنوبية– الغربية؟ وهل تعتبر فصائل المعارضة السورية (مع أجنداتها وارتباطاتها الخارجية المتعارضة) بأنها معنية بتنفيذ هذا الاتفاق.
أسئلة كثيرة محرجة، لا تتوافر إجابات واضحة عنها، من جانب أي من هذه الأطراف، بما فيها إسرائيل وإيران وذلك على رغم مشاركتهما في التحضيرات سواء عبر الاتصالات الأميركية مع إسرائيل أو الروسية مع إيران.
هذه التعقيدات تدفع الى التساؤل أيضاً عن مدى قدرة وقف النار على الصمود. هل يكون مصيره كالقرارات التي سبقته حيث تعرضت للسقوط بعد فترة وجيزة؟
في رأينا، سيرتبط نجاح وقف النار بالترتيبات الأمنية التفصيلية التي سيـــضـعـــها الأميـــركيـون والروس في الأيام المقبلة، وبمدى جدية الروس والأميركيين في الضغط على حلفائهم لاحترام هذه الترتيبات، خصوصاً إسرائيل وإيران والنظام.
في الوقت الذي عبّر فيه بنيامين نتانياهو عن ترحيب إسرائيل بالتهدئة ووقف النار في سورية، شرط أن لا تسمح هذه الهدنة لإيران وأتباعها بالتمركز في سورية وخصوصاً في المنطقة الجنوبية. لكنه عاد ورسم خطوطاً حمراً تؤكد عدم حصول «حزب الله» على أسلحة عبر سورية، أو التمركز في مناطق قريبة من حدود إسرائيل، كما طالب بعدم السماح للإيرانيين بالوجود على الأرض السورية.
سيؤدي التوافق الروسي– الأميركي الجديد، ومراعاته التوجهات الاستراتيجية الجديدة وإدارة ترامب إلى شق فجوة في علاقات روسيا مع إيران ومع النظام، خصوصاً في ظل وضع خطوط حمر لوجود إيران وحلفائها في المناطق الجنوبية.
في النهاية، يبدو أن هناك عملية مقايضة أميركية– روسية، إذ قبل الأميركيون «بترتيبات السلام» التي نصت عليها مفاوضات آستانة بمشاركة إيرانية وتركية، مقابل قبول روسيا بالترتيبات الخاصة للمنطقة الجنوبية الغربية، والتي تراعي مصالح حلفاء أميركا، أي الأردن وإسرائيل، وعلى حساب المصالح والتطلعات الاستراتيجية للنظام السوري وحليفيه إيران و «حزب الله».
إذا كانت إيران قبلت على مضض إنشاء المنطقة الجنوبية على حساب مصالحها العملانية والاستراتيجية، فإن السؤال الحرج سيتركّز على إمكان قبولها ترتيبات تستبعد مشاركتها في ضمان المنطقة الوسطى في حمص. إن إيران ومعها ميليشياتها تمتلك القدرة وحرية الحركة للتخريب على الخطة الروسية– الأميركية.
مصير سورية هو في أيدي قوى الانتداب الجديد، والنظام لا يملك الآن أكثر مما كانت تملك الدولة السورية تحت الانتداب السوري، وليس في الأفق ما يؤشر إلى نهاية قريبة لهذه الوصايات الجديدة على البلاد.
|