ثمة مشكلات كثيرة يواجهها عالمنا حالياً، جزء منها ظاهر للعيان ومطروح يومياً للرأي العام، وجزء آخر معروف لكنه يبدو أكثر تجريداً فلا يحظى بالاهتمام الدقيق والمتابعة الحازمة، مع أنه الأكثر تأثيراً في مسارات الأحداث، وقد يكون العديد من الوقائع اليومية نتيجة مباشرة أو غير مباشرة مترتبة عليه.
خذ مثلاً توفير فرص العمل. هذه قضية أساسية في الزمن الحاضر، لا تحظى بالنقاش الجاد في المجتمعات، مع أنها قنبلة موقوتة تهدّد مصير الكثير من البلدان. ما دعي بالثورات العربية مثلاً لم يكن ليحصل لولا ارتفاع معدلات البطالة لدى فئات الشباب إلى درجة اليأس التام من المستقبل. فمن الخطير أن القوى التي تمثل المستقبل تبدأ حياتها بالإحباط والشعور بالغبن وتجد نفسها بعد سنوات من التضحية والدراسة من دون أمل.
لكن هذه الوضعية لا تنفرد بها المجتمعات العربية، فنسبة الشباب ضمن معدلات البطالة هي دائماً الأكثر ارتفاعاً في البلدان الغربية أيضاً. فنمط الاقتصاد العالمي كله أصبح ينتج البطالة أو على الأقل لم يعد قادراً على استيعاب الطلبات الجديدة للعمل. والآلة عوّضت الإنسان في مجالات عدة، والاقتصاد ذاته أصبح في جزء كبير منه افتراضياً ومضارباً فلا يحتاج إلى يد عاملة كبيرة. والأدهى أنّ المستقبل يتجه نحو تعميق هذا الوضع، فمن المنتظر أن يظهر في السنوات القليلة المقبلة جيل جديد من الروبوتات (الإنسان الآلي) يعوّض البشر في العديد من الخدمات التي توظف حالياً مئات الآلاف من العمّال، وستتواصل «رقمنة» العديد من النشاطات البشرية العادية بما يغني عن الحضور البشري.
ويرى بعض المتخصصين أنّ ما يحصل حالياً يشبه ما عاشته البشرية سابقاً أثناء الثورة الصناعية، فيبدون بعض التفاؤل في أنّ تنجح الثورة التكنولوجية الحالية في طرح فرص عمل من نوع جديد تعوّض النشاطات التي ستدمرها، مثلما عوّض عمّال المؤسسات الصناعية الكبرى وظائف العصر ما قبل الصناعي من باعة المياه المتجولين وسائقي العربات المجرورة والكثير من الحرف الصغيرة. لكنّ البعض الآخر ينفي هذا السيناريو المتفائل ويرى عكس ذلك، إذ إنّ الثورة التكنولوجية الحالية ليست قادرة على توفير فرص عمل بالعدد الكافي لأنها لا تحتاج بحكم طبيعتها إلى يد عاملة ضخمة. يكفي أن نعلم أنّنا إذا جمعنا عدد العاملين في كلّ المؤسسات التي تقدّم خدمات التواصل الاجتماعي (تويتر، فايسبوك، أنستغرام، الخ...) فإنّ عددهم لا يتجاوز عدد العمّال في مصنع متوسط لصناعة السيارات.
ثم إنّ القضية لا تقف عند الجانب الاقتصادي، إذ من المعلوم أنّ نشأة الصناعات الكبرى والإدارات الحكومية أثناء الثورة الصناعية حوّلت المؤسسة الاقتصادية أو الوظيفة الإدارية إلى شبه هوية للإنسان، حيث يقضي الجزء الأكبر من حياته في خدمتها ويعيش بفضل مواردها. أما الوضع الحالي فجعل العمل موقتاً والعامل غير آمن، وهذا ما يفسر لماذا تعود الهويات التقليدية ويتنامى البحث عن انتماءات أخرى تحمي الإنسان أو توهمه بالحماية.
وحتى السبعينات، كانت قضية البطالة غائبة عن أغلب بلدان العالم، حيث لا يكون عاطلاً إلاّ من لم يسع بجدّ إلى العمل أو لم يحصّل الكفاءة لممارسة نشاط معين. وقد انقلب الوضع حالياً ولم تعد من حلول أمام أصحاب القرار إلاّ التخفيف من قيود العمل والتسهيل من إجراءات تسريح العمال والتخفيف من حقوقهم لتشجيع إنشاء فرص عمل جديدة، فكأنهم يقسمون العمل الموجود على عدد أكبر من الطالبين مقابل تخفيض أجورهم. وكانت الولايات المتحدة من أوّل السائرين في هذا التوجه فاستطاعت أن تخفف نسب البطالة حتى قاربت الصفر في عهد الرئيس الأسبق بيل كلينتون، ومع ذلك فإنّ توجه الرأي العام إلى الجمهوريين، وآخرهم دونالد ترامب، يؤكّد أنّ العمّال الجدد غير راضين بظروف عملهم الجديدة وما زالوا يحلمون بما تمتع به العمال في عهود سابقة. ولم يعد أمام ترامب اليوم إلاّ أن يبتزّ دول العالم الأخرى كي يوفّر لمواطنيه فرص عمل أكثر لياقة، ولو كان من نتائج ذلك ارتفاع التلوث وإغراق العالم بالأسلحة، بما سيؤدّي بدوره إلى أزمات اجتماعية وسياسية في مناطق عدة تهدّد الاستقرار العالمي.
مناقشة هذه القضايا شبه غائبة في المجتمعات العربية تخصيصاً، مع أنها ستحدّد مصيرها عاجلاً أم آجلاً، وربما كان من أسباب هذا الغياب الشعور بالعجز التام عن التحكم في مسارات العالم المعقدة، وربما أيضاً واقع أنّ طغيان الأيديولوجيا لا يترك مجالاً لمناقشة القضايا اليومية للإنسان العادي، وربما أخيراً كون الوتيرة السريعة للأحداث المتراكمة لا تترك مجالاً لمتابعة أحداث أخرى تبدو أقل إثارة. وعلى رغم الإنذار القوي الذي وجهته الثورات العربية، ما زلنا عاجزين عن تحويل قضية فرص العمل، وعمل الشباب بخاصة، إلى محور نقاشاتنا وتفكيرنا، باعتبارها أم المعارك التي ستحدّد المصير والمستقبل. |