التاريخ: تموز ٣٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
عن العلاقة بين الإرهاب «الديني» والعنف «الوطني» - وحيد عبد المجيد
عرف العالم منذ أواخر القرن التاسع عشر أنواعاً مختلفة من الأعمال الإرهابية التي تُحرّكها دوافع سياسية. غير أن الإرهاب المستتر وراء الدين، والمستند إلى تأويل نصوص فقهية، بات الأخطر في العقود الثلاثة الأخيرة، وأنتج مرجعيات يسَّرت التجنيد والتحريض، وأتاحت لتنظيم مثل «داعش» بناء شبكة دعاية إلكترونية واسعة النطاق في العالم.

وتحظى هذه المرجعيات بالمساحة الأوسع في الجدل المتصل بالحرب الراهنة على الإرهاب، وتُعطى أولوية متقدمة في الجهود التي تهدف إلى مكافحته، وتطغى على العوامل الاجتماعية– الثقافية والاقتصادية والأجواء السياسية حتى حيث تلعب البيئة الحاضنة للإرهاب دوراً مهماً في توسعه.

وفيما ينغمس المعنيون بمواجهة الإرهاب في البحث عن وسائل لإضعاف قدرة تنظيماته على استخدام مرجعياته «الدينية» في تجنيد أعضاء جدد، ويزداد الحديث عن إصلاح أو تصحيح الخطاب الديني، يندر الاهتمام بالعلاقة بين هذا الإرهاب، والعنف الذي يستند إلى شعارات وطنية أو قومية، ويمنح ممارسوه أنفسهم حقّ توزيع صكوك الوطنية، والاتهام بالخيانة والعمالة.

وكم من أبرياء قُتلوا غدراً على خلفية تُهم كهذه في مجرى الصراع ضد الاستعمار في معظم بلدان المنطقة العربية. فقد أنتج ذلك الصراع نمطاً من العنف المسلح نال، وما زال، مكانة سامية لدى قطاعات واسعة من الرأي العام، استناداً إلى شرعية الحق في مقاومة الاحتلال، ومشروعية النضال لتقرير المصير. وطاول العنف «الوطني» أو «القومي» بعض أبناء هذه البلدان من دون أن تتأثر مكانته فيها، بل يُحتفى حتى اليوم بممارساته كلها بلا تمييز.

وصار الاحتفاء بهذا العنف جزءاً من الثقافة السائدة لمجتمعاتنا، من دون إدراك أنه يمكن أن يكون أحد العوامل المغذية لأنماط أخرى من العنف، بينها الإرهاب الذي يستند إلى مرجعيات «دينية».

والحال أن المسافة بين قبول القتل لأهداف «وطنية»، أو لغايات «دينية»، أقرب مما يتصوره من يفصلون بين هذين النمطين من أنماط العنف المسلح، أو لا ينتبهون أصلاً إلى وجود ما يجمعهما.

وبسبب إغفال العلاقة بين هذين النمطين، تستدعى في كثير من المناسبات الوطنية أعمال فنية تُمجّد تصفية بعض أبناء الوطن بدعوى أنهم خونة أو متعاونون مع الاستعمار، كما حدث في مناسبة ذكرى ثورة 23 تموز (يوليو) في مصر قبل أيام.

ومن أهم هذه الأعمال الفيلم المأخوذ عن رواية إحسان عبد القدوس «في بيتنا رجل»، والذي أخرجه للسينما هنري بركات في 1961 بالعنوان نفسه. يحتفي الفيلم، كما الرواية، بطالب اغتال وزيراً مصرياً بدعوى تعاونه مع الإنكليز في مرحلة الاحتلال، ويُقدمه بصورة المناضل الوطني الثائر الذي يستحق التمجيد. وعندما يهرب، بعد القبض عليه، ويلجأ إلى منزل زميله الجامعي الذي لا يمارس أي نشاط سياسي، تقبل أسرته بعد نقاش بين أفرادها إيواءه بصفته بطلاً وطنياً.

وكثيرة هي أوجه الشبه بين سياق الرواية والفيلم المستند إليها، وواقعة اغتيال أمين عثمان وزير المالية في حكومة حزب الوفد في كانون الثاني (يناير) 1946 برصاص الطالب إبراهيم حمدي الذي أدى الفنان عمر الشريف دوره في الفيلم. وتحظى هذه الواقعة بالتمجيد في كتابات تاريخية وسياسية، ومذكرات شخصيات لعبت أدواراً كبرى في مصر، لأن الطالب الذي قتل الوزير كان عضواً في مجموعة ضمت الرئيس الأسبق أنور السادات، ووزير الخارجية في عهده محمد إبراهيم كامل الذي اختلف معه بعد ذلك في نهاية مفاوضات كامب ديفيد في أيلول (سبتمبر) 1978، ورفض توقيع الاتفاق الذي أسفرت عنه، واستقال من منصبه.

ورد اسما السادات وكامل في اعترافات الطالب وقتها. وشرح لاحقاً الرئيس الأسبق، في كتابه «البحث عن الذات»، كيف أن الطالب أدلى بتلك الاعترافات بفعل حيلة لجأ إليها المُحقّق حين فشل في حمله على الإفصاح عن شركائه، فأوعز إلى بعض الصحف أن تنشر أنه قتل الوزير لأسباب «نسائية»، ما دفعه إلى سرد خلفيات عملية الاغتيال كي لا يُحرم من المجد الوطني المترتب عليها.

وفي مذكراته التي حملت عنوان «السلام الضائع في كامب ديفيد»، أعاد كامل اتهام الوزير المغدور والطعن في وطنيته، ولكن بلهجة أقل حدة، فقال إنه كان معروفاً بصلاته الوثيقة والمريبة مع الإنكليز، ما استفز مشاعر المصريين.

ويحفز تأمل العلاقة بين الإرهاب «الديني» والعنف «الوطني» على التفكير في ما يجمع النزعات الدينية والوطنية– القومية المتطرفة من ناحية، وما يصل التكفير بالتخوين من ناحية ثانية.

النزعات الدينية والقومية وقودها التاريخ، وهدفها العودة إليه في شكل أو آخر. وإذا صح أن التاريخ قد يُعاد إنتاجه تلقائياً في صورة مأساة أو ملهاة (حين تؤدي تداعيات الصراع في مرحلة ما إلى أوضاع تشبه ما كان في مرحلة سابقة)، فما بالنا بما يمكن أن يترتب على محاولة إعادة إنتاجه بطريقة قسرية مؤدلجة، إذ يضطرب تطور المجتمع أو يزداد اضطرابه، فيخرج منه أسوأ ما فيه ثقافياً واجتماعياً وسياسياً. كما يجمع النزعات الدينية والقومية المتطرفة ارتداد ثقافي عميق توضع بموجبه الهوية بطابعها الدفاعي في مواجهة الحضارة الإنسانية التي تنتج من تفاعلات خلاَّقة بين البشر.

لذا يبدو الاتهام بالكفر (التكفير) والخيانة (التخوين) وجهين للعملة نفسها، إذ يقوم كل منهما على احتكار قيمة عليا لا يجوز لأيٍ كان أن يجعل نفسه وصياً عليها (الدين والوطن)، واعتماد خطابات أحادية ترفض الآخر، وتنفر من التعدد والتنوع اللذين يثريان أي مجتمع، وتُشيطن المختلف في الدين أو المذهب أو العرق أو الرأي أو الموقف، وتحض على الكراهية والتمييز، وصولاً إلى الاغتيال في النسخة الأكثر تطرفاً لهذه النزعات. كما يجمع التكفير والتخوين ترهيب فكري يُعطّل العقل فيتوسع نطاق الخرافة بمصادرها المختلفة، ويزداد الميل إلى التفسيرات التآمرية التي تُعّزز نزعات العنف دفاعاً عن الذات المتآمر عليها.

والمدهش أنه على رغم كل هذه الجوامع بين الإرهاب الديني والتطرف الوطني «القومي»، يُستهان بالعلاقة بينهما، ما يجعل التصدي لأحدهما حرثاً في البحر حين يقترن بالاحتفاء بالثاني، بسبب قوة التغذية المتبادلة بينهما. ويسألونك بعد هذا عن مغزى انتشار الإرهاب «الديني» على رغم الحرب العالمية المستمرة ضده منذ سنوات!