التاريخ: تموز ٣٠, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
في هزيمتنا الممنوعة - عمر قدور
يفنّد حازم صاغيّة في مقاله «هذا ليس انتصاراً» («الحياة»، 26/7/2017)، مفهوم «حزب الله» وماكينته الإعلامية للانتصار، بعد استعجال الأخيرة إطلاق تهديدات التصفية بحق معارضي سياسة الحزب. والحق أن مفهوم قيادات الحزب للانتصار لا يبتعد عما نراه في الجوار، فاليوم تبدو قوى الاعتراض في أشد حالاتها ضعفاً، بينما لا تُظهِر القوى المنتصرة أو الموشكة على النصر أدنى حالات التسامح مع خصومها الذين هم، على الأقل، جزء معتبر من مجتمعاتها.

يشير حازم صاغيّة إلى عدم ثقة المنتصر بنصره، وعدم قدرته على منحه الديمومة. وفي ذلك استشعار لهشاشة الانتصارات المعلنة هنا وهناك على المجتمعات المعنية. لكن التهديد بالقتل، وهو يأخذ منحى الإبادة، أقلّه في الجوارين السوري والعراقي، هو ما يعوّض ذلك الإحساس، من دون أن يُشبع فيه نقصاً للطمأنينة لن يُشبَع إطلاقاً. أي أننا أمام انتصار لن يكون نهائياً، ولن يقرر المنتصر الاكتفاء به، بل ثمة دائماً حاجة سرطانية أو دراكولية لمواصلته.

جدير بالذكر أن زعيم «حزب الله» في آخر خطاباته فاجأ مؤيديه بعدم إعلائه من شأن انتصاره في معركة جرود عرسال، لمصلحة تركيزه على استمرار المعركة.

وإذ لا يوجد انتصار بهذا المعنى، ستكون الهزيمة ممنوعة، حتى إذا رغب طرف في إعلان الهزيمة. المطلوب لم يكن في أية لحظة جلوس منتصر ومهزوم لاقتسام حصيلتهما من المعركة، طالما أن المنتصر يريد الحصيلة كاملة، ويريد سحق المهزوم نهائياً. إننا نغادر هنا حتى المعنى المتعارف عليه للاستسلام، فالاستسلام بما ينطوي عليه من إقرار تام بالهزيمة والخضوع السياسي، ليس مما يكفي ذلك التعطش للانتصار. لقد جرّب المنتصر ذلك من قبل، واختبر عدم ديمومته.

في سورية، حيث النموذج الأنقى والأكثر توحشاً، اختبر السوريون مع بداية الثورة أن هزيمتهم ممنوعة. حجم الوحشية الذي قوبلت به احتجاجات تطالب بالإصلاح كان يعني أن الهزيمة لن تعيدهم إلى ما قبل الثورة، بل ستملي عليهم كل يوم استحقاقات متزايدة، وربما إلى ما لا نهاية. وحشية قوات الأسد لم تكن عنفاً سياسياً، لأنها في الأصل لا تبتغي تحقيق هدف سياسي والاكتفاء به على النحو المعهود للعنف السياسي في العالم. الإبادة والتهجير لم يُستخدما في أي يوم كسلاحي ضغط، هما بمثابة ردّ «غريزي» على مجتمع أعلن وجوده، ولا ينبغي أن يكون له وجود على الإطلاق، لا ينبغي أن يكون له وجود حتى كمجتمع مهزوم.

لتتكامل معضلة السوريين كان نصرهم ممنوعاً دولياً، وطوال سنوات وقعوا بين فكّي كماشة من امتناع الهزيمة وامتناع النصر. كما هو معلوم نصت الإرادة الدولية على ألا حل سوى الحل السياسي للقضية السورية، والحل السياسي المزعوم اقتضى أولاً المراهنة على تضحية النظام برموزه مقابل بقائه. ربما هي صفقة مجزية لأي نظام، وفق المفهوم الشائع عالمياً، لكنها تدل على قصور في فهم دراكولا السوري، إذا أخذنا السلوك الدولي بحسن الظن. بل اقتضت تلك المراهنة أحياناً تقديم انتصارات لتنظيم الأسد، من أجل جلبه إلى تسوية ترجح موقعه، ولم تنجح تلك الرهانات. ذلك قد يفسّر (جزئياً فقط) ارتياح العديد من القوى إلى السيطرة الروسية على الأسد، فبعض الرهانات يتوقف على الحاجة إلى طرف يعرف كيف ينتصر، من دون أن نخوض في لاأخلاقية هذه الرهانات بجملتها.

نستطيع تشبيه سلوك تنظيم الأسد وزملائه في الحلف الإيراني بحرب التأسيس الإسرائيلية، جزئياً وموقتاً، قبل أن تتخذ الحروب الإسرائيلية في ما بعد طابعاً منضبطاً وغير مفتوح الشهية على انتصارات تفوق القدرة على الاستيعاب. ولعل تراجع حكومة نتانياهو الأخير عن تركيب بوابات الكترونية وكاميرات في المسجد الأقصى دلالة على عدم السعي إلى سحق المحتجين أو إراداتهم، ما دام ذلك لا يندرج في منفعة وجودية لإسرائيل. من دون أن نبخس الاحتجاجات حقها، لا تبدو إسرائيل خاسرة ضمن معاييرها ذاتها التي توازن عقلانياً بين كلفة الانتصار وضرورته.

دائماً كانت أفضل خاتمة متوخاة للصراعات الأهلية هي صيغة «لا غالب ولا مغلوب»، في حالتنا نحن إزاء صيغة شاذة من «لا منتصر ولا مهزوم»، فلا النصر تم كما يشتهي أصحابه ليتوقفوا، ولا الهزيمة ذات أفق يمكن احتماله ليقرّ بها الخاسر. هذه أيضاً ليست صيغة مبالغة ممن ينتشون اليوم بتقدمهم ويطمعون بالمزيد من الاستثمار السياسي. هي قناعة ترتقي إلى مصاف العقيدة وترى في كل سلطة عاجزة وزائلة ما لم تكن كليّة ومطلقة، وما لم يُزل من الوجود أعداؤها الظاهرون أو المتخفّون.

وقد يكون لازماً في هذا السياق التمييز بين العجز والهزيمة، فإعلان العجز بالنظر إلى توازن القوى الحالي هو في المتناول قياساً إلى إعلان هزيمة لن يُصرف في التداول على أية حال. وربما يكون من حسنات إعلان العجز البحث في أسبابه، ووجود أو عدم وجود القدرة على تلافيه، بينما من المحتم أن إعلان الهزيمة لن يفيد شيئاً حتى في تلافي الهزيمة اللاحقة المُدبّرة منذ الآن.

لا معنى في حالتنا لنشر التفاؤل أو اليأس، ولا داعي للبرهنة على أن الأول لا ركائز له في ما يجرى في عموم المنطقة. أما نشر اليأس فلن يكون له معنى من جهة عدم وجود مردود واقعي له، هو أشبه بإعلان استسلام لا ينتظره دراكولا السلطة، وعلى الأرجح لم تعد تروي تعطشه تلك الضحية المستسلمة. ربما تلزمنا مفردات أخرى في مواجهة هذا الواقع، بين انتصار غير ممكن أو ممنوع وهزيمة ممنوعة أيضاً، ربما تلزمنا لغة أقل قطعية مما يُستخدم حتى في وصف تلك الانفعالات البسيطة لدى عموم البشر.

المسألة ليست لغوية إلا في ظاهر التعبير عنها وضرورته، إذ عندما يمتنع التقدم والتراجع معاً مع استحالة المراوحة في المكان والزمن يكون ضرورياً التفكير بمنفذ لائق لمعنى الوجود، أو لمعنى مغادرته. ولأن أمر مغادرته يتكفل به أصحاب الانتصارات الأبدية، قد يكون الخيار الوحيد المتبقي في هذه اللحظة مواجهة قصوى، ربما من نمط جديد ينبغي التفكير فيه، لا حباً فيها، ولا توسلاً لبطولات من أي نوع، فقط لأنها هروب من رعب الاحتمال الآخر.