واقعتان تسيطران على مقاربة «القوى الإصلاحية» للانتخابات النيابية المقبلة في لبنان. الأولى إقرار قانون انتخابي نسبي، وهو المطلب التاريخي للقوى الإصلاحية (وخاتمة المظلومية الانتخابية للحزب الشيوعي اللبناني). أما الثانية، فتمثّلها نسبة «الـ٤٠ في المئة» وهي نسبة الذين اقترعوا للوائح «الإصلاح» في الانتخابات البلدية والنقابية الأخيرة. وتقاطع هاتين الواقعتين حوّل الانتخابات النيابية المقبلة إلى «أم المعارك» الإصلاحية التي ستفتح أبواب المجلس أمام أعيان الإصلاح بعدما فشلوا في اقتحامه جماهيرياً.
فمع تراكم الحركات الاحتجاجية في الآونة الأخيرة والانهيار الوشيك للنظام، بتنا أمام آخر معارك الإصلاح وخاتمة سيرورة طويلة من التضحيات والنضال. المطلوب بسيط: توحيد صفوف الإصلاح، صياغة برنامج وطني، إنشاء ماكينة انتخابية... أو على الأقل، هذه هي الرواية المبسّطة التي تسيطر على مخيلة البعض.
لكن ماذا عن احتمال أن يكون النظام الذي يقارعه الـ٤٠ في المئة قد انهار، وهو انهيار لم تلحظه القوى الإصلاحية وهي تصارع الطبقة السياسية في زواريب الفساد متجاهلة المعارك في الجرود؟ قد يصعب لخطاب يرى ذاته يقاوم عدواً عمره من عمر البلد، وإن تغير اسمه من «طغمة مالية» إلى «كلن يعني كلن» مرورا بـ «الترويكا»، أن يقبل باحتمالات كهذه. فالظاهر السياسي ليس إلا غطاء للباطن الاجتماعي وفق هذا المنطق. لكن ماذا لو كان الأمر معكوسًا، أى تحوّل المسألة الاجتماعية إلى غطاء أيديولوجي يخفي تحوّلات النظام؟ وماذا لو أن «العهد الجديد» لم يكذب عندما طرح نفسه كقطيعة مع النظام السابق؟
ربّما من المبكر تحديد معالم العهد الجديد، وإن كانت هناك إشارات واضحة للاتجاه الذي تسلكه الأمور. ففي لحظة تحوّل إقليمي يطاول موازين القوى من جهة وتركيبات الدول والمجتمعات من جهة أخرى، يمثل العهد الجديد اصطفافاً جديدًا للبنان وإتماماً لعملية تحويله إلى إحدى ساحات الصراع العسكري للحشود الشعبية المتنقلة. إنّها ليست عودة لبنان إلى حضن النظام البعثي، كون هذا الأخير لم يعد كما هو، بل ربط للأراضي اللبنانية بخارطة الشرق الأوسط الجديدة، المكوّنة من مخيمات نازحين من جهة ومناطق مفيدة من جهة أخرى.
في هذه الجغرافيا الجديدة، يأتي العهد الجديد في طور أزمة الاقتصاد اللبناني، بعدما بات نموذج ما- بعد الحرب غير قابل للحياة. وفي أعقاب ذلك، تلوح سياسة نهب أولي وإعادة تشكيل للريع الاقتصادي قائم على وعود النفط والغاز، بما يعيد تركيب اقتصادات المناطق المفيدة على تقاطع العسكر والإعمار والريع.
هذان التحولان يفرضان تحولاً آخر في بنية النظام السياسي، ينقله من توافقيته (وإن كانت كاذبة) إلى «حكم الاستثناء»، حيث تشكل «الحرب على الإرهاب» وميليشيات الدولة وقوانين الطوارئ منطق السياسة الجامع. فالعنف لم يعد كامناً بل أصبح المحور الأساسي للسياسة في لبنان، ليصبح «الإعلام الحربي» الوريث المعلن للسيارات المفخخة التي اعتبرناها عقيمة حفاظًا على السلم الأهلي.
بعد انتصار لبنان الموحّد على أبو مالك التلّي واستدعاء التاريخ ليشهد على المجد الجديد، تبدو الانتخابات المقبلة بلا معنى ومجرّد ترهات «ديموقراطية» لا تقارن ببطولات المجاهدين في الجرد. فالنصر العسكري ومعه الالتفاف الشعبي حوله قدما المضمون الناقص للعهد الجديد. فما بعد جرود عرسال ليس كما قبلها، كما يحب أن يردد حاكم لبنان الجديد: فمرحبا بدولة حزب الله.
بهذا المعنى، قد لا نكون في صدد المعركة الانتخابية الأخيرة بين قوى الإصلاح والفساد، بل أمام أول نموذج للانتخابات في «لبنان المفيد».
منذ انتهاء الحرب، شهد لبنان نموذجين من الانتخابات. خلال التسعينات، قامت المعارك الانتخابية، في ظل سيطرة المخابرات السورية، على احتمالات الخرق الضئيلة لمعارضي الوصاية. الانتخابات لم تكن مهمة بل كانت مجرّد مرحلة في بناء تيار معارض عريض، يشكل البرلمان جزءًا منه، الجزء الأقل أهمية. كانت نقطة التحوّل الانتخابات الفرعية في المتن عام ٢٠٠٢ حيث تعادل مرشحا السلطة والمعارضة، وبدأت معركة الاستقلال. النموذج الثاني من الانتخابات بدأ مع أول انتخابات خارج هيمنة المخابرات السورية، وقام على منطق الفوز بالأكثرية. فتصارعت كتلتان تمثلان تيارين شعبيين، وكان هدفهما الفوز بأكثرية المجلس. انتهى هذا النموذج مع بروز استحالة الحكم بوجود حزب الله وانهيار الطرف الفائز بالأكثرية، وبدأ مسلسل تمديد المجلس.
قد لا يصح النموذجان على الواقع الجديد. فقد فاز العهد الجديد قبل أن تخاض الانتخابات لكونه نجح في إنتاج معارضته «الداخلية». باتت معارضة الحريري مرتبطة بالحفاظ على بضعة عقارات في عملية إعادة توزيع الريع الاقتصادي، وهذا بعدما فقدت مقوماتها الشعبية. أما القوات اللبنانية، فمرهونة بلعبة الحفاظ على الموقع الثاني ضمن الطائفة المسيحية، ريثما يتحرّر الموقع الأول. وفي ما يخص جماعة الإصلاح، فهي اليوم مدعوة إلى دخول العهد الجديد ضمن معادلة «رملة البيضاء مقابل عرسال»، أي للعب دور المعارضة المقبولة في دولة حزب الله، وهي التي تستجدي «المقاومة والجيش والشعب» لبعض من الإصلاح. فلا معنى عن كلام إصلاح الدولة أو العبور إليها بعد اليوم. إنّها دولة حزب الله، لا تُصلَح بل تُصلِح فيما هي تعبر فوق رقاب من يعارضها.
إننا أمام احتمال أول مجلس نيابي تسيطر عليه قوى لبنانية من خلال السلاح، ما يفرض إعادة اعتبار للسياسة وطرق عملها. فليس من عنوان اليوم أهم من إسقاط العهد الجديد وشعار «المقاومة والجيش والشعب»، بما يمثله من انحدار استبدادي في البلاد، وهو عنوان يتصدر مطالب الإصلاح أو بناء الدولة. بات من الضروري البحث عن شبكات أمان من قبضة العهد الجديد، من خلال بناء التحالفات الواسعة التي تضم كل من يعارض العهد، وإن كانت لا ترضي تطلعاتنا الأخلاقية. بهذا المعنى، قد لا يكون دور «القوى الإصلاحية» اليوم البحث عن تمثيل نيابي بقدر ما هو إنتاج الخطاب والأسس لتحالف واسع يشكّل إمكانية معارضة حزب الله.
بكلام آخر، مستقبل الـــسياسة في لبنان اليوم أن تبقى هناك قوى سياسية، مهما كانت ضئيلة، ترفض تطبيع سيطرة حزب الله. هذا أهم من الـ٤٠ في المئة من المقترعين الذين يشكلون مادة أحلام المصلحين. |