لا نفتأ نذكّر بأنّ الشعب الليبي الطيب يعيش منذ سنوات معاناة قاسية، تبدو غائبة تماماً عن أسماع العالم بسبب غياب التغطيات الإعلامية المباشرة والميدانية في هذا البلد. فوسائل الإعلام العالمية كانت ممنوعة فيه على مدى عقود من حكم العقيد القذافي، ثم لم تتجاسر على العمل فيه بعد الثورة التي حوّلت البلد إلى جحيم ومسرح شديد التعقيد للصراعات بين المجموعات الميليشيوية، يمثل خطف الصحافيين وافتداؤهم أحد نشاطاتها الرئيسية.
تظلّ الأحداث المتصلة بليبيا مقتصرة في الخارج على المفاوضات والتصريحات السياسية، ولا يعلم الناس حقيقة الوضع الدموي في هذا البلد الذي لا يتجاوز عدد سكانه بضعة ملايين يملكون احتياطاً نفطياً وغازياً يكفيهم للعيش المرفّه عقوداً عدّة. لكنّ البلد أصيب أوّلاً بنظام حكم دمّر قدراته وطاقاته، ثم بثورة كانت من أفشل الثورات في المنطقة، سيطر عليها الإسلاميون فحوّلوها إلى مذبحة في حقّ الوطن، وهم يعملون اليوم على إبقاء الوضع على حاله لأطول فترة ممكنة حماية لأنفسهم من المحاسبة، مستفيدين من التسرّع الذي حصل في خطة التسوية الأممية، والذي ترك الوضع معلّقاً.
فبعد أن كانت المشكلة في إيجاد توافق بين حكومتين متنافستين، أصبح المطلوب التأليف بين ثلاث حكومات، وليس هذا إلّا الجزء الظاهر من طبقة الجليد، لأنّ الحقيقة أنّ ليبيا ممزقة بين عشرات المجموعات والقبائل والميليشيات التي لن يكون من السهل توحيدها في مشروع وطني واحد ولا إيجاد ترتيبات سريعة لمنعها من التقاتل والعنف.
إنّ المقترح المفاجئ الذي أطلقه هذا الأسبوع فائز السراج، رئيس حكومة الوفاق المدعومة دولياً، والداعي إلى تنظيم انتخابات في آذار (مارس) المقبل، قد يكون إشارة إلى بداية حلحلة الوضع، لا سيما أنه يتنزّل في سياق التقارب مع القائد العسكري خليفة حفتر الذي بات يسيطر على المنطقة الشرقية. يدفع إلى التفاؤل أيضاً أنّ القوى الدولية والإقليمية المعنيّة باتت تعترف بضرورة تعديل اتفاق الصخيرات باتجاه منح سكان المنطقة الشرقية حقوقاً أوسع. لكن، ينبغي التعامل بحذر مع هذه المؤشرات الجديدة. فليبيا شهدت في السابق تنظيم عمليتين انتخابيتين لم تجديا نفعاً. كانت نتيجة الانتخابات الأولى عام 2012 فوز الليبراليين، إلا أن النظام المعقّد للانتخابات وانتشار الميليشيات الإسلاموية والتضليل الإعلامي الذي مارسته قناة «الجزيرة» ومئات الملايين من الرشاوى التي دفعت من الخارج أدّت إلى التلاعب بالنتائج وفرض المؤتمر الوطني العام الذي سيطر عليه الإسلاميون وحلفاؤهم. واستغل الإسلاميون هذه السيطرة لإجهاض الانتقال الديموقراطي، وكانت أكبر جريمة إصدار القانون المعروف بالعزل السياسي الذي ألغى الوجود السياسي لبعض الشخصيات الوفاقية التي ساندت الثورة منذ البداية ومثلتها في العالم، ومنها رئيس المؤتمر نفسه، بدعوى أنها عملت سابقاً في نظام القذافي، فانهار الشيء القليل من الخبرة السياسية والإدارية الذي كان يمكن أن يشكل منطلق بناء دولة في هذا البلد الذي لم يكد يعرف معنى الدولة في العصر الحديث.
أما الانتخابات الثانية عام 2014 التي انتهت بفوز الليبراليين أيضاً، فألغيت نتائجها لأسباب عدة، منها ضعف نسبة المشاركة فيها، إذ عملت الميليشيات على ترهيب الناخبين لمواصلة سيطرتها على الأرض. فهل ستتوافر المرة المقبلة الظروف الأمنية المناسبة كي يشارك الليبيون بكثافة في الاقتراع؟ هذا شرط أساسي وضروري، لكنه صعب التحقيق أيضاً.
في كلّ حال، هناك اليوم بعض التطورات الإيجابية ينبغي اقتناصها لحلحلة الوضع الليبي، فالناس يموتون من الجوع والمرض في بلد من أغنى بلدان المنطقة، والشيوخ يدهسون في الطوابير الطويلة أمام المصارف والمخابز، والعالم منشغل عن ليبيا بما يقع في العراق وسورية، ولا يدرك أنّ ليبيا يمكن أن تتحوّل إلى ملجأ بديل لـ «القاعدة» و «داعش» بعد طرد مقاتليهما من المشرق، وأن تراجع الظهور العلني للإرهاب في ليبيا، بسبب حملة الضربات الجوية الأميركية، لا يعني انقراض المجموعات الإرهابية القادرة على العمل السري والسيطرة المفاجئة، على غرار ما حصل في الموصل عام 2014، وكما يمكن أن يحدث في ليبيا إذا لم يتحقّق الحلّ الأدنى السياسي والأمني قريباً.
إنّ انفراج الأزمة الليبية لن يفيد الليبيين فحسب، بل سيخفّف التوتر في المنطقة كلها، ويعمل على تراجع الأزمات والعنف، وسيخفّف على أوروبا ضغط الهجرة غير القانونية من أفريقيا عبر الشواطئ الليبية. ومن غير المفهوم لماذا تتقاعس أوروبا عن القيام بدور أكبر وأكثر حيوية في هذا الملف، على رغم تدفّق آلاف المهاجرين على شواطئها، تاركة إيطاليا تواجه وحدها هذا التحدّي. لعل القرار الذي تهدّد به إيطاليا حالياً، وقد وصفه أحد المسؤولين فيها بالخيار النووي، سيجبر أوروبا على مراجعة موقفها، إذ أعلنت إيطاليا أنها ستمنح المهاجرين غير القانونيين تأشيرات شنغن التي تسمح لهم بالتنقل بحرية على كل التراب الأوروبي، أي أنها سترحلهم بطريقة ذكية وقانونية إلى جيرانها وإلى بلدان أكثر إغراء للمهاجرين واللاجئين بسبب ما توفره من إعانات اجتماعية سخية، كفرنسا وألمانيا. قد يضاف هذا المعطى إلى المؤشرات الأخيرة ليسمح ببارقة أمل للشعب الليبي المنكوب في تحقيق الحدّ الأدنى من الاستقرار وكرامة العيش، مع أنّ جوهر القضية في ليبيا لن يحلّ قريباً مهما كانت التطورات التي تشهدها في الأشهر المقبلة. |