إذاً، لم يكن ثمة من يُعد العدة لعمل إرهابي وشيك. المهمة في جرود عرسال تطلبت عرساً للوطنية اللبنانية الباحثة عن موضوع تملأ فيه فراغاً هائلاً يسودها منذ انبعاثها الثاني في 2006. لا بأس ببعض الكراهية، إذ لطالما شكلت الأخيرة بديلاً للوطنيات الفارغة من مضامينها. «حزب الله» أراد أن يستكمل منطقة نفوذه في ريفي القصير وحمص، فجردت له «الوطنية اللبنانية» حملة كراهية ممهدة لمهمته، وأطلق له رئيس حكومة دولة الكراهية اليد، وتمّ تكثيف المشهد بشريط فيديو، هو خلاصة ما حصل. عامل سوري فقير ينهال عليه فقراء لبنانيون من أقرانه، بالضرب والشتائم، ويجبرونه على إعلان «حبه» لرئيس الجمهورية اللبنانية العظمى.
لا شيء أكثر وضاعة من اندراج المرء في «وطنية» موضوعها الأساس كراهية بلهاء وعاجزة عن الإتيان بغير ذلك المشهد البشع لشبان ينهالون بالضرب على عامل أعزل. والوضاعة تكمن تحديداً في ذلك الانكشاف المذهل لمهمة حملة التحريض. ذاك أن معركة جرود عرسال تقضي بأن تنطلق الحملة، وأن يكون وقودها فقراء جلادين، وضحاياها فقراء مجلودين.
سفهاء القوم كانوا حملة الراية. استحضرت الجزمة من قاموس التشبيح البعثي، فاستعيض بها عن صور البروفايل على صفحات «فايسبوك». وأن تكون الجزمة جزءاً من أحجية وطنية، فذلك ما يدعو إلى التفكير في حقيقة أن لبنان فقد مهمته، وها هو يحاول تعويض هذا الفقد بشحنات من الكراهية. فـ «الوطنية» استحضرت في معركتها الأخيرة كل ما تملك من أسلحة، وجعلت من معركة الجرود واقعة مؤسسة للانبعاث، ولنا أن نتخيل وطناً مؤسساً على القبول بمقتل أربعة موقوفين في سجن جيشه، وعلى وظيفة مقتصرة على تأمين مهمة إقليمية لحزب مندرج في خريطة مذهبية عابرة للأوطان.
اليوم، وبعد انقضاء أكثر من أسبوع على الوثبة، صار بإمكان المرء أن يُفسر الوقائع الغامضة. الغارة المفاجئة على مخيمات اللاجئين في عرسال، وما أعقبها من أخبار عن إلقاء القبض على انتحاريين، وموت الموقوفين في سجون الجيش وتعقب محامية الموقوفين إلى المستشفى لمنعها من تحليل عينات الجثث، وتخبط رئيس الحكومة سعد الحريري في تغطيته الحملة وفي سعيه إلى تجنب دفع أثمانها.
«معركة الجرود بدأت» قبل يومين، و «حزب الله» قرر موعدها رسمياً في خطاب مسجل لأمينه العام. والحملة الهذيانية للوطنية اللبنانية بدأت قبل ذلك بأسبوعين. فهل من علاقة بين الحدثين؟ لا تطرح الوطنية اللبنانية هذا السؤال البديهي على نفسها، ذاك أنه يعرضها لمساءلة حول الفراغ الهائل الذي تتخبط فيه. فهي جردت للمهمة التي أوكلها إليها «حزب الله» كل خيالها الجامح. جزمة عسكرية وصور لموقوفين عراة، وعبارات لمغنين، وعراضات كلامية وزجلية، وهي فعلت ذلك لا لتواجه نفسها بما تكابده من فراغ، بل لتملأ هذا الفراغ بشحنات كراهية يبدو أنها الوسيلة الوحيدة لانعقادها.
القول أن لبنان فقد موضوعه صار اليوم حقيقة. المهمة الأولى التي أوكلت للمسيحيين تعثرت مرة ومرتين، لكنها اليوم فشلت. الحرب الأهلية كانت عثرة في وجه التجربة، ولم تكن فشلاً كاملاً. لم تتلاشَ الحدود خلالها، وبقيت الجماعات تتحارب تحت سقف أوهام سقطت اليوم بالكامل.
علامَ يمكن أن يُجمع اللبنانيون اليوم؟ ما هو موضوع هويتهم؟ التأمل في أحوال دولتهم لا يفضي إلا إلى التعويض عن الفشل بالكراهية. الفساد في لحظات الذروة اليوم، ولا أحد خجل بفساده. العجز عن حل كل المشكلات لا يعيق تصدر الفاشلين والفاسدين طوائفهم وأحزابهم. شراكات النفط العتيد عابرة للانقسامات المذهبية، وأن تشتكي اليونان من أن شواطئها بدأت تتأثر بالنفايات اللبنانية، فهذا ما لا يكترث له مسؤول لبناني واحد. وبينما يدعو الوزراء السياح الأجانب والعرب إلى المجيء، يستأجرون هم الطائرات الخاصة ويغادرون مع عائلاتهم إلى شواطئ العالم غير الملوث. وقبل أن يُغادروا إلى منتجعاتهم العالمية يوقعون على قانون انتخاب يعيد إنتاج الطبقة السياسية ذاتها مع تعديلات طفيفة تعفي «حزب الله» من بعض المزعجين في البرلمان.
الخريطة في الإقليم تنعقد ولبنان هذه حاله. لا قوة فيه إلا لـ «حزب الله». الحكومة مسخرة لتأمين مهمة الحزب في سورية، ولتقاضي الأثمان في النفط وفي النفايات وفي الضرائب والرسوم. لا أحد يثيره توقيف صحافي، وتهديد محامية طالما أن قلة تتقاضى الأثمان الزهيدة التي وزعها الحزب على «خصومه».
اليوم، صار يمكن القول أن لبنان هو «دولة حزب الله». المعنى الحقيقي لكل شيء يفضي إلى هذه القناعة. والحزب بصفته الدولة العميقة، صار يجيد توظيف ما تبقى من هويات الجماعات في مهمته «غير الوطنية». المسيحيون وخساراتهم وعلاقتهم بالجيش، وزعماء السنّة ورغبتهم في التعويض عن الإخفاقات، والشيعة وتمسكهم بالتصدر، لا شيء أسهل على الحزب من إدارة هذا الوهن، ومن توظيفه في مهمة تبدأ في عرسال ولا تنتهي في الموصل.
لكن، من جهة أخرى يكشف ما حصل في عرسال أن نهاية لبنان صارت حقيقة. في البدء، تلاشت الحدود الجغرافية، وانفتحت للمرة الأولى في تاريخ الكيان على حرب تدور خارجه، فصار البلد مساحة غير محددة. واليوم، وبعد ست سنوات من المهمة في الخارج، انكشف مستوى جديد للتلاشي اللبناني. لم يعد للبنان ولجماعاته الأهلية موضوع ووظيفة. الكراهية لا تسعف هنا، ذاك أنها هي ذاتها لا موضوع لها سوى كشفها للانهيار. فقد سبق أن أسست الكراهية لوطنيات، إلا أن ذلك كان ورماً في جسم مريض، أما الكراهية اللبنانية فهي تشتغل وحدها، لا جسم تنخره، ولا ثقافة تلوثها ولا هوية تهددها. كراهية تعويضية تتحرك في بلد صار مجرد مساحة، وهي أحياناً تثير الضحك وأحياناً أخرى تثير الغثيان. وبين هذين الشعورين، ثمة حزن على محاولات فشلت، ربما كانت مداواته في أن يقبل المرء بحقيقة أنه يعيش في دولة «حزب الله»، فهذا على رغم ثقله يبقى أقل استخفافاً بذكائه من أن يتوهم وطنية عناصرها جزمة عسكرية وأغنية هابطة. |