التاريخ: تموز ٢٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
تعويم التعددية للتحرر من دوّامة التطرف والاعتدال - عادل يازجي
في غالبية دول العالم الثالث يدعي الحكام الشموليون الاستناد الى الدين، ويحاربهم الثائرون عليهم بما يرونه استناداً الى الدين، كأن الآيديولوجيات غير الدينية لم تعد تصلح في تثبيت الأنظمة ولا في الثورة عليها، حتى المنظمات الإرهابية والفصائل المتناحرة للاستيلاء على (الربيع العربي) تنقّب في الدين عما يشرعن وجودها وجرائمها، كل النكبات التي ألمّت، وتلمّ بالوطن العربي نتجت من سوء استخدام الخطاب الديني، في الحكم وفي السياسات التربوية والتثقيفية، وفي الآيديولوجيات الموالية والمعارضة! ألا يكفي هذا للتوجّه عملياً وفكرياً الى اعادة النظر في السياسات الدينية الرسمية، وغير الرسمية، ومعالجة تراكماتها وتشعباتها؟

هذه المشكلة مستعصية على الحلول الأمنية، ولم تعد الفتاوى تجدي في معالجتها، فالتصدّي للخلل والمشكلات الناجمة عنه ليس بقذائف يطلقها فقيه او كتيبة فكرية متأهبة، ولم يظهر ما يوحي بوجود إستراتيجية للوقاية او للعلاج او لقراءة السياسات الدينية وتحديد مواطن الخلل فيها. والأزمات تتفاقم أمراضها في الدول العربية بعامة، لا سيما ذات التعدد الثقافي (الديني أو القبلي أو العشائري أو القومي أو العرقي) ويُنتظر من مؤسسات الحوار الديني والفكري ومراكز الأبحاث التي تنتشر منابرها في العديد من دول العالم، ان ترسم خريطة طريق فكرية وفقهية واجتماعية وحقوقية، لإعادة النظر في السياسات التربوية الدينية بعامة، والسياسات التربوية الوطنية المحلية لكل دولة، وتأثر التعدد وتأثيره فيها سلباً او إيجاباً، وبلورة توجُّه لتعويم التعدد الثقافي في اماكن وجوده؟

التعدد الثقافي في اي دولة يُستثمر كظاهرة ايجابية الا في العالم العربي، حيث تعلّق كل المشاكل والأزمات على شمّاعته، والمشكلة لم تكن فيه اساساً بقدر ما كانت في مسألة التطرف والاعتدال ضمن المذهب الواحد، ومنه انتقلت بالعدوى الى التعددية المذهبية، وفي كل الأحوال تعويم التعدد يساعد في وأد المشكلة بين المذاهب، فتضمحل تلقائياً ضمن المذهب الواحد، وفي إبعاد الخطاب الديني عن السياسة، والتعويم بحد ذاته عمل ديموقراطي بامتياز، يشكل نجاحه ارضية فكرية وإجرائية لتحقيق الديموقراطية، ولن يغيب ذلك عن الخريطة المنشودة، لاسيما بوجود المعايير الدولية للتعويم التي يمكن تحويلها من البلاغة الخطابية الى لغة المشاريع القابلة للتنفيذ؟

جاء في كتاب «الإسلام بين العلم والمدنية»، لمؤلفه الشيخ محمد عبده: «هلاّ ذهبت الى ما اشتُهر بين المسلمين، وعُرف من احكام قواعد دينهم، وهو: اذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه، ويحتمل الإيمان من وجه واحد، حمل على الإيمان، ولا يجوز حمله على الكفر»، هذا هو الموقف «الراديكالي» وليس نقيضه مطلقاً، ولا يوجد اعتدال او تطرف في هذا المقام. وهو موقف مجمع عليه فقهياً وعقلياً، وأساس يمكن البناء عليه لتعويم التعددية كأمر مفصلي في إطفاء الحرائق التي تهدد الدول العربية والإسلامية. إطلاق صفة التطرف على التنظيمات الإرهابية خطأ لغوي وفكري، لأنها (تكفّر) كل من لا ينضوي تحت راياتها، بينما في متن المذاهب كلها، وفي حواشيها الوضعية، لايوجد تطرف او اعتدال بقرار الانتماء للمذهب، أما من حيث العمل بمجمل احكامه او بعضها، فهذا امر شخصي مختلف، لا تكفير فيه ولا ضرب رقاب كما تفعل المنظمات الإرهابية. والقنوات الفضائية المنحازة الى الإرهاب تستضيف متعاطفين مع هذه التنظيمات يطلقون عليها مصطلح الراديكالية، ويقصدون بذلك تسريب شيء من المديح والمشروعية، وليس ذمّها لخروجها عن الإجماع الفقهي والعقلي. وبعضهم يتقصد الّا يستخدم مصطلح «داعش» مطلقاً بل تنظيم الدولة الإسلامية، بلا كلمة (ما يدعى) التي يستخدمونها قبل اي تنظيم او فصيل غير ارهابي.

اما مصطلح «اعتدال» فلا يعني التساهل، او غضّ الطرف، بل الاستقامة في الموقف نظرياً وعملياً بلا اعوجاج، وهو يلتقي مع مصطلح «ثقافة» (ثقّف الرمح: قوّم اعوجاجه)، ومن هنا فإن اعتدال مؤسسة فكرية هو في استقامة توجهها نحو اهدافها، ومقدرتها على تقويم اعوجاج الأرضيات الثقافية المولدة للارهاب.

وفصل المقال بين دلالة كل من مصطلحي التطرف والاعتدال ليس مجرد تفسير لغوي، بل هو عمل فكري وفقهي بامتياز يمارسه الباحثون الذين تنطبق عليهم احكام العدل والنقاء المؤسِّسة لمشروعيتهم في البحث والتدقيق وإصدار الأحكام، والذين يُفترض ان تستفيد منهم مؤسسات الحوار في اعادة تقويم ادوات القياس الفقهي، والقياس العقلي، والسياسات الدينية الوطنية الرسمية، وأيديولوجيات الإرهاب الدينية، وإعادة الاعتبار الى العقلانية التي طردت من العالم العربي رسمياً ومذهبياً منذ مئات السنين. لعل الحوار الفكري والبحث المقارن مع المنابع يكتشف اهمية وجودها في مشاريع مؤسسات الحوار ومنتدياتها العربية والدولية.

السؤال المفصلي الآن: هل تستطيع مؤسسات الحوار ومراكز الاعتدال، وما تفرع عنها او قد يتفرع، ليس فقط تحديد الأسباب، فهذه لم تعد خافية على احد، ولا الاقتصار على خلخلة ارضيات الانحراف، بل تطوير وترسيخ ارضيات بديلة تستوعب عقلياً وقلبياً ودينياً مسألة التعددية، وتفتح قنوات تعويمها او تدويلها بالاستفادة من تجارب الآخرين فكرياً ولوجستياً.

طرح تعويم التعددية على الحراك الدولي لمعالجة الأزمات العربية الراهنة، يبدو تحليقاً خارج السرب، لكنه بشيء من التمعّن والبحث والتدقيق، قد يكون التوجّه الوحيد القادر على تفكيك ذهنيات التكفير والإرهاب، وإعادة تشكيل طرفيها العقلي والفقهي ديموقراطياً، وإدخالها في ما سمّاه كوفي أنان «شبكات السياسة الدولية».

 
* كاتب سوري