بين 1993 و2011، بدت المنطقة مرشّحة لسلوك طريق يغاير ما كانت تسلكه: في 1993، وُقّع اتّفاق أوسلو لإنهاء النزاع الفلسطينيّ – الإسرائيليّ. في 2003، سقط صدّام حسين. في 2005، أُخرج الجيش السوريّ من لبنان. في 2011، اندلعت الثورة السوريّة في سياق ثورات عربيّة أخرى.
القاسم المشترك الأبرز بين هذه الأحداث الكبرى كان اشتراكها، من مواقع مختلفة، وبأشكال مختلفة، في إسقاط الطور الأخير والمديد من الحقبة العسكريّة – القوميّة البادئة في 1949، وخصوصاً في 1956. السقوط كان بدأ طوره الأوّل مع الانفصال السوريّ عن «الجمهوريّة العربيّة المتّحدة» في 1961، ثمّ كان طوره الثاني مع نكسة 1967.
ما من شكّ في أنّ كلاماً نقديّاً كثيراً وقويّاً يمكن توجيهه إلى هذه المنعطفات الكبرى ما بين 1993 و2011. بيد أنّها جميعاً، ولو بتفاوت، وفّرت شروطاً للمبادرة والفعل الإنسانيّين أرقى ممّا كان سائداً قبلها. فقد انكسرت المنظومة الفكريّة والعمليّة التي شكّل العدوّ والعداوة عمودها الفقريّ، والتي انضبطت المجتمعات طويلاً بموجبها. المواطنون بات في وسعهم، من حيث المبدأ، أن يصنعوا مستقبلهم انطلاقاً من تلك المنعطفات وبالصراع معها. لم تعد هناك إيديولوجيّات رسميّة حاكمة وضابطة وخانقة. حرّاس هذه الإيديولوجيّات شرعوا يتهاوون.
بهذا ظهر احتمال، في عموم المشرق، يتيح مكاناً للقيم في السياسة. ذاك أنّ الحقبة القوميّة – العسكريّة عطّلت القيم لصالح التعويل الأحاديّ على الضدّيّة حيال العدوّ، ولمصلحة اشتقاق المعاني الذاتيّة من هذه الضدّيّة. حتّى القيم القليلة التي حفّت بالناصريّة (على عكس البعث الذي خلا منها تماماً) رُبطت بجهاز السلطة العسكريّ والأمنيّ وبصياغته للمجتمع. هكذا استُبعدت الحرّيّة تماماً بوصفها القيمة التي تنمو في كنفها القيم الأخرى.
لكنْ مع انهيار التسوية الفلسطينيّة – الإسرائيليّة، وانقلاب التجربة العراقيّة إلى حرب طائفيّة مستترة أو معلنة، وتفسّخ التحرّر اللبنانيّ إلى تجاذب طائفيّ تخالطه تسويات عارضة بين الطوائف، ثمّ فشل الثورة السوريّة من ضمن الفشل الأعرض للثورات العربيّة، تبدّى أنّنا انتكسنا، وننتكس، إلى ضدّيّة لا تُمارَس هذه المرّة ضدّ العدوّ السابق إلاّ لفظيّاً. إنّها تُمارس ضدّ الأعداء الأهليّين الناشئين، أو الذين كان العداء لهم مستتراً قبل أن ينفجر انفجاره العظيم الراهن.
لم ينج احتمال واحد من الاحتمالات التي فُتحت بين 1993 و2011. هذا ما يطرح علينا أسئلة حارقة ومؤلمة. لكنّنا، في هذه الغضون، بتنا أمام تفسّخ وتناحر يطاولان العلاقات السنّيّة – الشيعيّة، كما السوريّة – اللبنانيّة، كما الكرديّة – العربيّة، كما الأكثريّاتيّة – الأقليّاتيّة في عمومها.
الماضي كانت وطأته ثقيلة على المستقبل: فلنتذكر أنّ الوطنيّتين المشرقيّتين الأكبر، أي السوريّة والعراقيّة، كانتا الأكثر تعرّضاً لسحق الحقبة العسكريّة – القوميّة ولكبتها. وإذ انقطعت الوطنيّة اللبنانيّة، منذ 1975، عن تطوير ذاتها، فقد عاشت الوطنيّة الفلسطينيّة، منذ الجلاء عن بيروت في 1982، في عزلة عن مجاري التأثّر والتأثير في الحياة العربيّة. هذا بعدما كان التفاعل السابق، في حضن الوعي والسلوك القوميّين – العسكريّين، سلبيّ المردود على الوطنيّات الفلسطينيّة واللبنانيّة والأردنيّة جميعاً، ومنعشاً لعناصر التنازع الأهليّ فيها.
تجسّدت أكبر محاولات التصدّي لولادة البدائل الوطنيّة، وربّما الديموقراطيّة، في المقاومة العراقيّة، السنّيّة ثمّ الشيعيّة، المدعومة من أنظمة العالم القديم كلّها، خصوصاً النظامين السوريّ والإيرانيّ اللذين جهدا لإحباط اتّفاق أوسلو ومفاعيله، بالتحالف، من موقع الخصومة، مع اليمين الإسرائيليّ المناهض للسلام. لم ينافس المقاومة العراقيّة في ذلك إلاّ المقاومة اللبنانيّة، ممثّلة بـ «حزب الله»، في جرّ لبنان والمنطقة إلى حرب تمّوز (يوليو) 2006 لإعادة الاعتبار إلى الأجندة القوميّة – العسكريّة، المؤسّسة على العداوة وانتفاء القيم، والتي هدّدت أحداث 2005 بتجاوزها.
وليس قليل الدلالة أنّ النظام السوريّ حين «حرّر» الوطنيّة السوريّة من الكبت المديد للحقبة الإيديولوجيّة، بعد 2005 ثمّ بعد 2011، إنّما استعادها على صورة الحقبة التي كبتتها: وطنيّة شوفينيّة و «حضارية» وطائفيّة وعديمة القيم. فوطنيّاتنا، في مناخ الانتكاس المتصاعد، إنّما ورثت قوميّتنا العسكريّة والأمنيّة بعد تفتيتها، أو بعد المجاهرة بتفتّتها، إلى عناصرها الأولى. هناك مقابلٌ لذلك في العراق وفي لبنان وفي فلسطين وفي الأردن.
بعض ثمار هذا التفتّت هو ما نشاهده اليوم في لبنان حيال اللاجئ السوريّ. |