ما هو المميز في مسيحيي لبنان بالمقارنة مع مسيحيي المنطقة؟ لماذا تم استضعاف مسيحيي الدول العربية بعد الثورات العربية التي انطلقت في عام 2011 بينما نجح المسيحيون اللبنانيون في الدفاع عن وجودهم وموقعهم في لبنان على مدى الحرب الاهلية في لبنان بين الاعوام 1975 و1990؟ هل مستقبل مسيحيي لبنان في خطر بعد التطورات التي نشأت في المنطقة منذ عام 2011 حتى الان؟ وما هي افضل استراتيجية يجب على مسيحيي لبنان اعتمادها لضمان الحفاظ على حريتهم واستمرارهم في لعب دور فاعل في لبنان والمنطقة؟ ان الاجابة على هذه الاسئلة يتطلب فهم دور المسيحيين في العالم العربي واستنباط مدى تفهم المسيحيين انفسهم لدورهم هذا. والحديث عن دور مجموعة اجتماعية في لحظة تاريخية معينة يتطلب فهم معنى هذا الدور واي هدف يسعى لتحقيقه. ان هوية اي امة او مجتمع تتحدد بطبيعة المنظومة الفكرية التي تقوم عليها هذه الامة والتي تحدد لها طبيعة علاقاتها فيما بين ابنائها وكذلك بينها وبين غيرها من الامم. الا ان اي منظومة فكرية لها عمر زمني كأي شيء في هذا العالم. من هنا فان تعريف التحولات الكبرى التي تشهدها المجتمعات الدولية والتي يمكن ان نطلق عليها حركة التاريخ هي في الانتقال من منظومة فكرية انتهت صلاحيتها الى منظومة فكرية جديدة تنتجها التحولات الاقتصادية والتكنولوجية والسياسية التي تعيشها جميع الشعوب والدول على مدى التاريخ. ومنذ اختراع الالة وانطلاق عصر التنوير اصبحت حركة التاريخ بيد العالم الغربي عاش من خلالها هذا الغرب مجموعة تحولات فكرية هائلة عبّرت عنها كل من الثورات البريطانية، الفرنسية، الاميركية والروسية. فالى جانب التكنولوجيا الحديثة والاكتشافات العلمية الهائلة، نجح الغرب في قيادة تحولات فكرية عالمية نقلت فيه العالم من هيمنة السلطة الزمنية على السلطة السياسية الى تأسيس نظام اجتماعي سياسي جديد يقوم على مفهوم المواطنة القائم على فصل الدين عن الدولة والمساواة بين المواطنين امام القانون واحترام الحرية الفردية والمشاركة الشعبية في اتخاذ القرار عن طريق الديموقراطية والرقابة الشعبية على عمل السلطة عن طريق صحافة حرة. وكما حملت فرنسا افكار الثورة الفرنسية ونشرتها في العالم في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، قامت روسيا بنشر فكر الثورة البولشفية الشيوعية عالمياً في القرن العشرين. كما قامت الولايات المتحدة في نشر مبادئ حقوق الانسان والديموقراطية وقدسية المبادرة الفردية في القرن العشرين. وكما تحمل امم شعلة التحولات الكبرى في العالم فهناك فئات اجتماعية اكثر استعداداً لقيادة حركة التحولات الفكرية في مناطقها وبيئتها. خلافاً لباقي مسيحيي المنطقة، كان مسيحيو لبنان، وبصورة خاصة الموارنة بينهم، الاكثر تقبلاً شكلياً للفكر الغربي والاكثر تقليداً لنمط الحياة التي انتجتها التحولات في المجتمع الغربي والاكثر ارتباطاً مصلحياً بالغرب. من هنا فان ما ميز مسيحيي لبنان عن غيرهم من مسيحيي المنطقة في مصر وسوريا والعراق مجموعة عوامل يمكن تلخيصها بما يلي: اولاً، لقد نجح الغرب منذ القرن التاسع عشر وعن طريق الارساليات في تعميم المعرفة ومفاهيم الحياة الغربية (ولو شكلياً) ضمن المجتمع المسيحي اللبناني حيث اصبح استعمال اللغة الفرنسية للتواصل ميزة من ميزات المسيحيين في لبنان وعنصر استعلاء على باقي افراد المجتمع الذين يجهلون التخاطب ولا يجيدون القراءة في اي لغة غير اللغة العربية. ثانياً، ارتبط المسيحيون اللبنانيون اقتصادياً بالغرب وبصورة خاصة فرنسا حيث بنت عائلات مسيحية كثيرة مجدها على تمثيلها للمصالح الاقتصادية للشركات الغربية في لبنان والمنطقة. ثالثاً، والاهم من كل هذا، ثبت المسيحيون اللبنانيون تفوقهم سياسياً بالنجاح في اقامة دولة لبنان وتثبيت دورهم السياسي المهيمن فيه وهذا ما لم تفلح فيه التكتلات المسيحية المختلفة في العالم العربي. من هنا ومنذ قيام دولة لبنان الكبير اضحى المسيحيون اللبنانيون اما خيارين استراتيجيين متناقضين. يقوم الخيار الاول على فهم دور المسيحيين في المنطقة كقوة تغيير تحديثية تنشر مفهوم الحرية السياسية للفئات الاجتماعية المختلفة المشكلة للمجتمع (في مواجهة سياسات القمع لهذه الفئات التي مارستها الايديولوجيات الدينية والقومية التي هيمنت في المنطقة) وكذلك في اهمية احترام الحرية الفردية والديموقراطية كنظام حكم واسس الاقتصاد الحر والمبادرة الفردية كنظام اقتصادي للبلد. تلخيصاً، نجح المسيحيون في ان يكونوا الممثلين الاساسيين لليبرالية الغربية في لبنان والمنطقة في مواجهة الفكر الاشتراكي والديني الشمولي خصوصاً بعد سقوط النظام الملكي شبه الليبرالي في مصر سنة 1952 وفي سوريا سنة 1958. ولولا هذا الموقع المميز للمسيحيين اللبنانيين، لما كان لبنان ولما بقت اي شعلة ليبرالية في المنطقة. لقد نجح المسيحيون في تثبيت لبنان كالديموقراطية الوحيدة ذي اهمية في العالم العربي كما فرضوا في لبنان والمنطقة نموذج الحياة الاجتماعية المنفتحة والمستغربة. الخيار الثاني الذي سار به بعض المسيحيين فهو اعتبار ان ما يميزهم عن باقي ابناء المنطقة يجعل منهم مجموعة اجتماعية مستقلة لا تنتمي عضوياً الى العالم العربي وقضاياه وبالتالي عليهم الانفصال سياسياً عن المنطقة وهويتها وذلك عن طريق انشاء وطن قومي للمسيحيين في لبنان تحت حماية الغرب.
لقد كان لكل من الخيارين السابقين فرصهم ومآزقهم. عاش لبنان في الفترة الممتدة ما بين 1943 و1975 مرحلته الذهبية حيث كانت بيروت العاصمة الثقافية والاقتصادية في المنطقة الا ان الفشل الاكبر كان سياسياً. لم ينجح المسيحيون في انشاء احزاب سياسية حديثة بل استمروا بالتبعية السياسية للشخص والعائلة والقبيلة. اما الفشل الاكبر فكان في رفض معظم المسيحيين تحديث النظام السياسي اللبناني والتخلي عن المشروع الشهابي لتحديث الادارة وتنمية المناطق الريفية ذو الاكثرية الاسلامية بهدف تعميق انتمائهم للبنان. انفجر لبنان سنة 1975 واختارت معظم القيادات المسيحية المقاتلة الخيار الثاني وسعوا اليه.
وكان الفشل السياسي كبيراً عندما ساد التسلط في المناطق التي سيطرت عليها القوى العسكرية المسيحية كما كان التصادم العسكري عنوان العلاقة بين هذه القوى في المناطق المسيحية المختلفة. والنتيجة كما هو معروف ليس فقط انهيار هذا الخيار ولكن تعرض المسيحيين لاكبر هجرة لابنائهم من لبنان.
واجه المسيحيون بعد اتفاق الطائف تحديين كبيرين. يتمثل الاول بتراجع سلطتهم السياسية داخل بنية النظام دستورياً وعملياً. اما التحدي الاكبر فكان من الحريرية الاقتصادية والثقافية التي نقلت مركز الثقل الاقتصادي والثقافي من تحت هيمنة المسيحيين الى البورجوازية السنية بشكل عام وبيروت بشكل خاص. لقد نجح الحريري في حمل شعلة الحداثة في مشروعه لاعادة اعمار بيروت وبرنامج المنح التعليمية وكذلك اعلامياً عن طريق تلفزيون المستقبل فتحول المسيحيون من اصحاب المشروع التحديثي الى مجرد شركاء تحت مظلة الحريرية الاقتصادية والثقافية. شكل اغتيال الرئيس الحريري فرصة للعودة السياسية للمسيحيين الى السلطة بعد انسحاب الجيش السوري من لبنان ظهرت معالمها بوضوح بخروج الدكتور سمير جعجع من السجن وعودة الجنرال عون من المنفى. الا ان الانقسام المسيحي الذي ساد في الحرب اطل من جديد تحت مظلتي 8 و14 آذار فتحالفت القوات اللبنانية والكتائب مع الحريرية السياسية مقابل تحالف التيار الوطني الحر مع حزب الله ومنظومة الشيعية السياسية. شكل تحالف 14 آذار الرافعة السياسية للدفاع عن سيادة الدولة والحياة الاجتماعية الليبرالية مقابل تبني قوى 8 آذار سياسة الدفاع عن الدولة المقاومة. ومع ذلك نجح المسيحيون في تحسين شروط مشاركتهم السياسية في النظام من خلال انتخاب الجنرال عون رئيساً للجمهورية واقرار مجلس النواب لقانون الانتخاب الجديد. الا ان هذا التحسين حمل معه العودة للنرجسية المسيحية على حساب المواطنة وبناء الدولة والنظام السياسي الليبرالي الديموقراطي.
بناءً على ما سبق اي خيار يتبناه المسيحيون في لبنان؟ ان تطورات المنطقة منذ عام 2011 تظهر بوضوح ان تحرر العالم العربي لا يمكن ان يتحقق الا من خلال التحرر من الديكتاتوريات الحاكمة والاصوليات الدينية. ان ما يحتاجه العالم العربي اليوم هو تثبيت الخطاب الفكري الليبرالي الذي يقوم على احترام الحريات والتنوع في المجتمع. ان نتائج الحروب الدموية القاتلة قد انتجت جدراناً مليئة بالحقد والكراهية بين مختلف مكونات المجتمع العربي ولا يمكن كسر هذه الجدران الا بانشاء اكبر تحالف شعبي ليبرالي يؤسس لمواطن عربي حر ونظام سياسي ديموقراطي دستوري. ومن هنا يعود مفهوم الدور التاريخي ليطرح نفسه مجدداً امام المسيحيين اللبنانيين. فأمام هؤلاء خياران. يقوم الاول على التقوقع ضمن الهوية الطائفية والانعزال التدريجي عن باقي مكونات المجتمع اللبناني. ان النتيجة الحتمية لهذا الخيار هو نهاية الدور السياسي الفعال للمسيحيين اللبنانيين. ان ضيق المساحة جغرافياً وثقافياً سيؤدي الى تزايد الهجرة ويجعل من عامل الديموغرافيا سهماً قاتلا في مستقبل المسيحيين في لبنان اذ سيحولهم الى مجرد مجموعة دينية صغيرة لها شراكة محدودة في السلطة وهذا سيدفع الى مزيد من الهجرة والتراجع. اما الخيار الثاني ان يكون مسيحيو لبنان رأس الحربة في الدفع باتجاه الحداثة في لبنان والوطن العربي والدفاع عن الحريات الفردية والجماعية. ان المعادلة سهلة وواضحة: كلما توسع وكبر انتشار الفكر الديموقراطي والليبرالي كلما زال الخطر على المسيحيين والاقليات في المنطقة وكلما توثق الايمان بالحرية الفردية كلما قويت المناعة في وجه الديكتاتورية والاصوليات الدينية. من هنا ان دور المسيحيين في لبنان هو تعميق الحداثة ضمن المجتمع المسيحي والتحالف مع القوى الليبرالية والتحديثية في الطوائف الاخرى لخلق اكبر تكتل وطني لمصلحة الدولة المدنية والمواطنة الكاملة. ان العبور الى الوطن وتقديم التنازلات المطلوبة لذلك من المسلمين والمسيحيين على السواء هو الدواء الشافي للخروج من عقدة الاقليات وعندها فقط يتحقق معنى ان لبنان هو دولة رسالة ونموذج للمنطقة.
أستاذ جامعي |