شعارات شعبوية يسارية تخللت الاحتجاجات، التي نظمتها تيارات عدة مناهضة للعولمة والنظام الاقتصادي العالمي، ضد قمة العشرين في هامبورغ. وصوت شعبوي يميني ارتفع في مناقشاتها للمرة الأولى منذ انطلاقها في 1999.
تجاورت الشعبويتان داخل قاعة القمة وخارجها. مشهد جديد لم يكن متصوراً قبل الصعود السريع للشعبوية اليمينية، والتوسع النسبي في حضور الشعبوية اليسارية، في الغرب في السنوات الأخيرة. لكنه ليس مستغرباً لأن أكثر ما يجمع الاتجاهات الشعبوية اليمينية واليسارية هو رفض العولمة بتفاوت. يعتقد اليسار الشعبوي أنها ليست إلا تعبيراً عن مصالح قوى العالم المهيمنة. ويتصور اليمين الشعبوي أنها تنتقص من سيادة الدولة، وتُضعف ثقافتها القومية.
مرجعية الشعبوية اليسارية في الأغلب الأعم طبقية. ينظر بعض اتجاهاتها إلى العولمة كما لو أنها امتداد للإمبريالية، التي اعتبرها معظم اليسار «أعلى مراحل الرأسمالية». لكن هذه المرجعية تنطوي على مكونات قومية في الوقت نفسه.
ومرجعية الشعبوية اليمينية قومية يتفاوت تطرفها من حالة إلى أخرى، لكنها لا تخلو من بُعد طبقي يظهر في دغدغة مشاعر قطاعات من العمال والفقراء، بدل تقديم حلول حقيقية لمشكلاتهم.
وتُعد حرية التجارة الدولية بلاءً أعظم لدى الشعبويتين. وعلى رغم اختلاف منطلقاتهما وخطابهما في مناهضتها، يجمع موقفهما تجاهها قصور مُدهش في فهم أبعاد أزمة البطالة اليوم. يغفل الشعبويون اليمينيون واليساريون معاً الأثر المتزايد للتقدم العلمي – التكنولوجي في أسواق العمل، الأمر الذي يثير سؤالاً عما إذا كانت مناهضة العولمة من باب رفض حرية التجارة الدولية يمكن أن تقود لاحقاً إلى النفور من العلم، إذا بقوا على جمودهم الذي يحول دون التحليق في الآفاق الجديدة التي يفتحها التقدم التكنولوجي.
تكتفي الاتجاهات الشعبوية بمجملها باستغلال إحباط أعداد متزايدة من الناخبين وغضبهم، وتقدم لهم خطابات تبسيطية تختزل أزمتهم في العولمة، أو تفسر ازدياد البطالة في أوساطهم بانتقال مصانع وشركات من بلدانهم إلى الخارج، مستفيدة من انخفاض أسعار العمالة في البلدان التي تنتقل إليها، ومن حرية التجارة الدولية، في آن.
يعد الشعبويون مواطنيهم المتعطلين بحل مشكلاتهم عبر مواجهة العولمة أو مراجعتها، وبناء أسوار تعزل بلادهم، عوض تقديم رؤى لإعادة بناء الاقتصاد على أسس تتيح خلق وظائف جديدة، وبرامج لإعادة تأهيل من فقدوا وظائفهم ليصبحوا أقدر على التعامل مع التقدم العلمي – التكنولوجي الزاحف.
والحال أن صب اللعنات على العولمة أسهل بالنسبة الى العقل الشعبوي البسيط من البحث في الآثار المركبة للتقدم العلمي – التكنولجي الذي يرتبط في أحد جوانبه بالعولمة، لكنه يبقى مستقلاً عنها. فقد أثبتت بحوث اعتمدت على احصاءات مدقّقة أن مسؤولية التكنولوجيا الجديدة عن ازدياد البطالة أكبر من العولمة بعدما دخل العالم عصر الثورة الصناعية الرابعة، أو ما يُطلق عليه الثورة الرقمية حيناً، وثورة ما بعد الصناعة حيناً آخر.
فقد أحـــدثت هذه الثورة تحولات كبرى في أســـواق العمل. وتزداد اثار هذه التحولات بمقدار ارتفاع معدلات دمج إنتاج السلع والخدمات في تقنيات وسائل الاتصالات والمعلوماتية، والاعتماد على أنظمة ذكية تفتح مجالات جديدة أمام عمليات الإنتاج الذاتية (الأتمتة)، وتوسع نطاق صناعات المعرفة والخدمات الجديدة، التي يقل فيها الطلب على الأعمال اليدوية، ويزداد على العاملين الأكثر تعليماً وتدريباً ومهارة.
ولم يثبت حتى اليوم أن السياسة الحمائية تحل أزمة البطالة. فزيادة الوظائف في صناعة محمية بالرسوم تقابلها خسارة وظائف في صناعات تعتمد على مدخلات مستوردة تزداد أسعارها نتيجة فرض رسوم عليها. ولذا قد تؤثر الحمائية في أنواع الوظائف التي تزداد أو تقل، وليس في عددها الإجمالي.
وإذا كان في إمكان الشعبويين هجاء العولمة ليل نهار، وإلقاء اللوم عليها، فماذا سيفعلون غداً حين يتبين لهم أنهم يحرثون في البحر؟ وهل نشهد وقتها لوماً للتكنولوجيا، وهجاء للتقدم العلمي، بما يماثل ما حدث إبان الكساد الكبير في الثلاثينات حين حُمِّلت الآلات الحديثة وقتها المسؤولية عن تفاقم البطالة ومعاناة العمال؟ وهل يتبنى بعض الشعبويين مواقف تدعو إلى وقف البحث العلمي الذي تؤدي نتائجه إلى ازدياد إمكانات أداء العمل بعدد أقل من العاملين، وهم الذين ينفر بعضهم الآن مما يعتبرونه تمزقاً اجتماعياً مترتباً على سرعة التغيير الذي تُحدثه تكنولوجيا الاتصالات؟ ولماذا تدفع البشرية ثمن ضحالة أفكار الشعبويين، وجمود السياسيين التقليديين، الذين لا يعرفون كيف يستثمرون التقدم العلمي – التكنولوجي لفتح مجالات جديدة للنمو، ومن ثم خلق وظائف تفوق تلك التي يؤدي هذا التقدم إلى الاستغناء عنها؟
المشكلة، إذاً، ليست في العولمة. وحلها، تالياً، ليس في سياسات ساذجة لا يعرف صانعوها إلا فرض قيود، وبناء أسوار، بل في تطوير أنماط التفكير، ومراجعة المناهج القديمة، وانفتاح الذهنيات المغلقة، والاستجابة لتحديات التقدم العلمي، وعصرنة الاقتصاد والمجتمع، وإنتاج سلع وخدمات جديدة، والتوسع في تحرير التجارة بوصفه أداة للتنمية ومحاربة الفقر، كما حدث في الصين مثلاً. فلم يكن ممكناً إخراج نحو سبعمئة مليون صيني من سراديب الفقر المدقع من دون استثمار العولمة، وتحرير التجارة الدولية.
ويتطلب ذلك إعطاء أولوية لتطوير نظم التعليم وزيادة الإنفاق العام عليها، وتمكين أعداد أكبر من الالتحاق بالتعليم الجامعي، إلى جانب دعم دور منظمة العمل الدولية سعياً إلى توازن اجتماعي، من طريق إعادة صوغ النظام الاقتصادي العالمي لكي يُقلع بجناحين هما هذه المنظمة ومنظمة التجارة العالمية.
وبمقدار ما تتعاون المنظمتان ويتكامل عملهما، تزداد امكانات الجمع بين زيادة النمو الاقتصادي والحد من التفاوت الاجتماعي، بخلاف الوضع الراهن الذي ينتج من ضيق أفق من أنشأوا منظمة التجارة العالمية في 1995 حين عمدوا إلى تهميش منظمة العمل الدولية. وبغض النظر عن ملابسات اختيار المبنى الذي ظلت فيه هذه المنظمة منذ إنشائها في 1919 ليصبح مقراً لمنظمة التجارة العالمية، فقد بدا أن وجود هذه المنظمة في مبنى منصوبة أمامه على بحيرة جنيف تماثيل تعبر عن الكفاح العمالي وتحتفي بالأيدي العاملة رمزاً لأحد تناقضات العولمة. هذا التناقض ساهم في صعود الاتجاهات الشعبوية التي قد تُمثّل خطراً على التقدم العلمي، وليس على إيجابيات العولمة فقط. |