قبل ان تكون دولة الخلافة الداعشية ظرفية، "داعش" ظاهرة مستمرة، وهي نتاج بيئة حاضنة في ابعادها الفكرية والدينية والسياسية، ملأت فراغاً أحدثه سقوط السلطة الحاكمة. دولة أبو بكر البغدادي لم تدم طويلاً، إلّا أن أثرها باقٍ وضحاياها كثر، وقد تظهر بشكل أو بآخر حيث أمكن، ما دامت الخلفية والعوامل التي أوجدتها قائمة. أما الحالة المعولمة والمنتشرة في السر والعلن التي يمثلها "داعش" وأمثاله فباقية في وجدان المناصرين وداعمي التطرف الديني، اينما حلّوا، على أرض دولة، او على متن طائرة، أو في أحياء باريس وبروكسيل، مروراً بالصومال وليبيا ومالي وسواها من دول وساحات.
"داعش" نشأ وتمدد سريعاً في العراق وسوريا في زمن الحروب وانهيار الدولة وسلطتها. "داعش" العراق جاء بعد حروب دامية وسقوط نظام صدام حسين اثر الغزو الاميركي في 2003، وما تبعه من تبدلات جذرية في النظام السياسي وفي موازين القوى الداخلية وتمدّد نفوذ دول الجوار، ولا سيما منها ايران. "داعش" العراق ليس صنيعة المؤامرة بل نتاج تقاطع مصلحي بين بعض أركان النظام السابق المخلوع وحالة الاعتراض والغضب في الوسط السني التي وظفها "داعش" لمصلحته في ظرف مؤات. أما "داعش" سوريا فجاء بروزه جراء الحروب والفوضى التي شهدتها البلاد في السنوات الاخيرة وادت الى تحولات مفصلية، لم تنته فصولاً الى اليوم. والمفارقة ان مناطق "داعش" في سوريا والعراق تفصلها حدود صنعها الاستعمار، بحسب "داعش" وعقيدة البعث. "داعش" ألغى الحدود، بينما حدود البعث كانت فاصلة بين حزبين وقيادتين.
يعكس "داعش" حالة خَبِرها العالم الاسلامي منذ بروز تنظيم "القاعدة" في التسعينات. وهي حالة لم تصنعها أجهزة المخابرات بل تعاملت معها، مثلما تتعامل مع جهات أخرى، دولاً كانت أم عصابات. سيد قطب وأبو الاعلى المودودي وعبدالله عزام وسواهم من منظري الجهاد السلفي المسلح ليسوا صنيعة المؤامرة. كما ان ربط نشوء الحركات الجهادية المسلحة بالعوامل الاقتصادية فيه تبسيط يجافي الواقع. قادة الصف الاول في "القاعدة" جاؤوا من عائلات ميسورة ومنهم من نال شهادات علمية عالية في بلدانهم، ولم ينجذبوا الى السلفية الجهادية بسبب أوضاعهم المعيشية المتردية. الجيل الاول من الجهاد السلفي المسلح انطلق مع "القاعدة" بقيادة أسامة بن لادن، وارث ثروة مالية ضخمة، وكانت سبقته تنظيمات تكفيرية ناشطة في عدد من الدول، منها مصر وأفغانستان وباكستان. أما الوجهة الجديدة المحتملة لأتباع "القاعدة" و"داعش" فهي أفغانستان بعد خروج القوات الدولية وحيث حركة الطالبان تؤمن البيئة المحلية الحاضنة بالعقيدة والسلاح.
أعلنت "القاعدة" الحرب على "العدو الابعد" والكفار، وفي مقدمهم الولايات المتحدة الاميركية، والنصارى واليهود. ومع اعتداءات 11 أيلول في عقر دار الدولة العظمى باتت "القاعدة" التنظيم القدوة في نظر مريديه ورمزا للارهاب المعولم في نظر الخصوم والضحايا. وجاء العنف الاستعراضي المتلفز والقتل المنظم الذي أتقنه "داعش" ليزيده حضوراً وسطوة. "داعش" استهدف "العدو الاقرب" من المسلمين "الكفار"، وسائر الكفار الثابتين في الوطن والمهجر، الى أي دين أو عقيدة انتموا. آلة القتل ال""ية لا حدود لها ولا صديق ولا حليف. حارب "داعش" الجميع، باسثناء اسرائيل، ولم يميز بين الافراد والشعوب، لا التزاماً لحقوق الانسان بل لحقه المشروع في قتل الناس.
بعد ثلاثة أعوام من دولة "داعش" تحرك العالم عندما تجاوز خطرها حدود المنطقة ونزاعاتها. التقت مصالح الاطراف المحليين والاقليميين والدوليين لاقتلاع "داعش"، ما يطرح تحديات مرحلة ما بعد "داعش" في مناطق غنية بالنفط وعلى تقاطع حدود الدول المعنية، العراق وسوريا وتركيا وايران، وحيث للاكراد حضور فاعل، فضلاً عن الدول الكبرى المنخرطة في النزاع السوري.
الفراغ الذي سيتركه "داعش" بعد الهزيمة لا بد ان يملأه أحد، والطامحون الى ملئه كثر، وخصوصاً في سوريا حيث الاوضاع السياسية والعسكرية أكثر تعقيداً من العراق، لا بسبب قوة "داعش" بل لاسباب مرتبطة بطبيعة النزاع السوري. حصر ارث "داعش" سوريا يخضع لمصالح الدول الكبرى والاقليمية ولحسابات الربح والخسارة في ما يخص النظام السوري. مرحلة ما بعد "داعش" لا مكان للدين فيها ولا مقياس. العراق دولة مفككة تتجاذبها الانقسامات السياسية والمذهبية والعرقية ومصالح الدول. وسوريا في اتون حروب لم تنتهِ، وجغرافيا انقسامات الامر الواقع في رعاية قوى متناحرة لم يجمعها سوى ارهاب "داعش". شريعة الغاب تفرض نفسها، ومن بقي من الأحياء في مناطق النزاع هم ضحايا صراعات الأكثر قوة ونفوذاً في زمن "داعش" أو بعد انحساره.
* نائب واستاذ للعلوم السياسية في الجامعة الاميركية في بيروت |