لم يصحُ السوريون وقلة من اللبنانيين من هول صور مداهمات الجيش مخيمات اللاجئين في عرسال حتى أتت سريعاً صور القتلى تحت التعذيب، ممن اعتقلهم الجيش في مداهماته. ومع بدء تنديدات لبنانية محدودة، غالبيتها على وسائل التواصل الاجتماعي، ارتفعت أصوات لا تخفى ارتباطات أصحابها لتنذر المحتجين بسوقهم إلى العدالة، وأن الجيش خط أحمر لا يجوز الاقتراب منه بالنقد أو التشكيك، ووصل الحال بالبعض إلى مطالبة المنتقدين بالصمت ومغادرة البلاد.
التهديدات أدت مفعولها كما يبدو، مسنودة بتأييد شعبي! وسط صمت رسمي تام يشي بالتواطؤ، في بلد عُرف عنه تعطيل الحكم أحياناً في التنافس على تسمية موظف من الدرجة الأولى فحسب. في الوقت نفسه، كان وزير الداخلية يعلن إطلاق سراح مطلقي الرصاص الحي ابتهاجاً بنجاح أبنائهم في «البروفيه»، فقط ممن لديهم سند من إحدى القوى السياسية، بينما أُبقي قيد الاعتقال أولئك الذين لا سند لهم، أي الذين حالهم مثل حال مَن يُهدَّدون اليوم بالاعتقال إذا اعترضوا على مقتل سوريين تحت التعذيب.
قد يُقال الكثير عن خلفيات هذا العداء للسوريين، ومن ذلك هروب لبنان التاريخي من الشقيق الأكبر، ومن ثم ما هو معروف عن حقبة وصاية الأسد على لبنان، وقد تُضاف أيضاً تلك الممارسات الشائنة في حق النازحين الفلسطينيين، فضلاً عن مواسم الكراهية بين اللبنانيين أنفسهم. إلا أن هذه المبررات تتجاهل التاريخ الأقرب، وهو التاريخ الحي حقاً، التاريخ الذي يحرك الأحداث الحالية، ويرسم أيضاً صورة لبنان، سواء من خارجه أو داخله.
أحد أخطر أحداث السنوات الأخيرة هو عدوان حزب الله على السوريين في بلدهم، هذه بالأحرى صيغة ملطفة جرى تسويقها إعلامياً حتى اكتسبت مرتبة البداهة. الصيغة الأقرب إلى الواقع هي: عدوان حزب الله على السوريين بصمت رسمي وشعبي يعني المشاركة الضمنية فيه. هذه ليست مبالغة ولا اتهاماً مجانياً، فنحن إزاء حكومة تضم كل أطياف النخبة السياسية اللبنانية، هذه الحكومة تخلت بكاملها عن إعلان بعبدا الذي كان ينص على نأي الحكومة اللبنانية عما يجري في سورية، ولا تهم الأسباب أو المكاسب المأمولة التي دفعت فرقاء لبنانيين إلى التغطية رسمياً على عدوان الحزب بعد التحفظ السابق عليه.
قانونياً، قد يصحّ شكلاً وصف طلب بشار الأسد مؤازرة حزب الله لقتل السوريين بالإجراء الشرعي، على خلفية كونه لا يزال يحظى بتمثيل البلاد رسمياً في الهيئات الدولية. لكن حتى يكون هذا في إطار الشرعية، مرة أخرى من دون الخوض في الشرعية الشعبية، ينبغي أن يحظى الطلب بموافقة الحكومة اللبنانية. صمت الأخيرة وعدم اتخاذها أي إجراء، وعدم رفعها أية شكوى كعضو في الأمم المتحدة، يجعلانها في مرتبة الشريك الكامل الموافق على عدوان الحزب وإرهابه. وإذا كان الأسد يستقوي بعجز الشرعية الدولية أو تواطؤها، فالحكومة اللبنانية، ومن ورائها من يؤيدون انتهاكات الجيش، يستقوون أيضاً بالتواطؤ ذاته. لكن ذلك قد لا يصمد طويلاً أمام إجراءات قضائية قد تُتخذ مستقبلاً من قبل ضحايا الحزب في سورية، وتتهم الحكومة اللبنانية بوصفها مسؤولة عن رعاياها.
ولعل أهم ما يستقوي به الحكم اللبناني وحشوده الشعبية هو ذلك التواطؤ الدولي على حماية لبنان من ارتدادات الحدث السوري، ويمكن الإشادة بنجاح هذا المسعى منذ 2011، وبخاصة منذ بدء عدوان حزب الله. فالحدود اللبنانية مفتوحة للإرهاب من اتجاه واحد، وما سُجّل من حوادث إرهابية فردية في الداخل اللبناني أقل حتى من بلد مثل فرنسا ليست لديه ميليشيات شيعية تقتل السوريين. أما الجيش اللبناني فيحظى بدعم دولي قلّ نظيره وتعدده، من دون أن تنبري واحدة من القوى الداعمة إلى الضغط عليه أو إعلان أي موقف غداة انفضاح تلك الصور.
نحن إزاء حكم يتحلى بأدنى درجات الشفافية في ما يخص قضية النزوح السوري، فلا أعداد رسمية دقيقة للاجئين سوى تلك المبالغات التي تبتغي التشكي أو طلب مساعدات دولية، ولا شفافية في ما يخص المساعدات الدولية المقدمة للحكومة من أجل إنفاقها عليهم. فوق ذلك، لا يتحرج مثلاً مسؤولون من إلقاء مسؤولية نقص الكهرباء على السوريين، بينما تنفضح قضايا فساد كبرى تخص بواخر توليد الكهرباء، ولا يتحرج مسؤولون من إطلاق نعوت عنصرية على السوريين، ولا تخشى بلديات من قانون يردعها عن تعليق لافتات تنذر السوريين بعدم التجول مساء.
هذا في مجمله ليس من فولكلور الفوضى اللبنانية، وغير ناجم فقط عن غياب سلطة القانون. هو يستقوي تحديداً بوضعية الحُكم المدلل الذي لا يخشى عقاباً من أية جهة، بل يشبه وضعية الطفل المدلل الذي يُعامل دائماً كطفل ذي احتياجات خاصة تميزه عن أقرانه. فحماية لبنان في السنوات الأخيرة اتخذت وضعية شاذة جداً، هي بالضبط حماية القاتل، ويجوز تشبيهها بوضعية سابقة هي حماية نظام وصاية الأسد على لبنان وما عنته من تنكيل بكل لبناني معارض لها.
ما يكمل هذه الحماية تلك الكليشهات المعتادة عن ضعف لبنان وخصوصيته، الأمر الذي أتاح دائماً لطبقته السياسية ألا تكون صاحبة حد أدنى من المبدئية أو القيم متى شاءت ذلك. اللبنانيون، بمعزل عن توافقهم إزاء استهداف السوري، أجدر من غيرهم بشرح ما يعنيه تمكين هذه الطبقة فساداً، وقدرةً على إسكات أي صوت مستقل في الشارع، وأخيراً إيجاد الذرائع للاستسلام لمشروع حزب الله في الهيمنة على كل مفاصل الدولة ما دامت المقايضة تأتي بأن يكسب الحزب وحلفاؤه في السياسة والهيمنة بينما يحظى منافسوهم بحصتهم من كعكة الفساد.
بالطبع لم يكن مطلوباً في أي لحظة التضحية بالسلم الأهلي اللبناني، ما هو مطلوب ألا يكون هذا السلم على حساب دماء سوريين يقتلهم لبنانيون في سورية وفي لبنان. أي تحذير من انتقام سوري مستقبلي لن يردع القتلة، بل قد يزيدهم تصميماً على سحق السوريين استباقاً. أما استضعاف الحكم قلّةً من اللبنانيين تجرؤ على مناهضة نهجه فغايته قد لا تتعدى إعادتها إلى الواقع، لترى لبنان كما آل إليه لا كما تتوهم. |