التاريخ: تموز ٩, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
السوريون إذ يُدفعون دفعاً إلى فم الأسد - بيسان الشيخ
إذا كان القانون الدولي العام ينص على «ألاّ يُعاد أي لاجئ إلى أرض تتعرض فيها حياته أو حريته للتهديد»، بصرف النظر عما إذا كان البلد المضيف وقّع أو لم يوقّع على معاهدات اللجوء، فما هو حكم القانون في حال أحدقت تلك الأخطار ذاتها باللاجئين في البلدان التي هربوا اليها؟ وما هو حكم القانون الدولي إن كان مصدر الخطر يتعدى الهبات الشعبية وسورات الغضب الأهلي، الى تورط السلطات الرسمية والمؤسسات الأمنية والعسكرية في شكل مباشر؟ من يحمي من ساعتئذ؟

ما شهده لبنان أخيراً ذروة غير مسبوقة على هذا الصعيد. موقوفون سوريون قضوا تحت التعذيب وهم في عهدة الجيش اللبناني بعد اقل من ثلاثة ايام على توقيفهم ومداهمة المخيم الذي يقيمون فيه. بداية، لا بد من القول إن الموت بتلك السرعة القياسية يعني أن الجهة المسؤولة عن التوقيف والتحقيق والاستجواب لا تسعى إلى انتزاع اعترافات أو استخلاص معلومات يحال على اثرها المتهمون الى المحاكمة وتكشف من خلالها شبكات ارهابية فعلية، وإنما هي تسعى الى تصفية سريعة وثأرية، لإشاعة الرعب قبل أي شيء آخر. والأهم انها تريدها علنية غير مواربة لتلقين العبر. نعم، لقد أراد الجيش أن يعلمنا أن سجلاته باتت تتسع لوفاة أشخاص تحت التعذيب وإحالة موتهم على الظروف المناخية والحالة الصحية.

والواقع إنه منذ انطلقت مسيرة اللجوء السوري قبل نحو 5 سنوات، نال السوريون اينما حلوا قسطاً من العسف والانتهاك، سواء في بلدان الجوار المباشر أو بلدان الدرجة الأولى التي حاولوا بلوغها إبحاراً ومسيراً لأيام وأشهر. يكفي أن تقارير حقوقية نشرت أخيراً تتهم بعض دول الاتحاد الأوروبي والمنظمات الإغاثية الدولية، بمعرفتها المسبقة باحتمال غرق قوارب تقل لاجئين وعدم تحريك ساكن لإنقاذهم.

لكن اللافت يبقى تلك الخطوات الحثيثة التي تتخذها دول الجوار المباشر، لا سيما لبنان وتركيا، للدفع بالعدد الأكبر من السوريين للعودة الى بلادهم بينما توضع اللمسات الأخيرة على اتفاقات المناطق الآمنة، على أن يُجنّس من يبقى منهم في تركيا وربما الأردن وفق مؤشرات كثيرة.

ومع الفارق الهائل في ظروف الإقامة والرعاية والحماية التي يحظى بها او يحرم منها السوريون في كلا البلدين، فإن التحشيد الإعلامي والاجتماعي الذي شهده لبنان وبلغ حده الأقصى مع المقتلة الأخيرة، شهدت تركيا ما يشابهه الى حد بعيد من حملات تجييش وتعبئة، تناقلتها وسائل الإعلام ومنصات التواصل الاجتماعي وتقول صراحة: «اطردوا السوريين». وترافقت الحملة مع رسائل زعم أصحابها أنها من قبل نافذين في «حزب العدالة والتنمية» تطلب من السوريين عدم التجمع وارتياد الشواطئ أو الأماكن المكتظة، وعدم لفت الانتباه في الأسواق والأماكن العامة، وتفادي الدخول في مشاجرات حتى وإن استدرجوا اليها، في محاولة واضحة لبث الخوف والارتياب. اي باختصار، ضرورة اعتماد التقية سلوكاً عاماً لدرء الأذى. والأدهى أن ذلك كله ترافق مع كلام كثير عن «مؤامرات خارجية» و «فتنة» يسعى الى زرعها «المتربصون» بالشعبين السوري والتركي. وليس سراً أن التضييق الرسمي وشبه الرسمي على السوريين في تركيا بدأ يشتد في الآونة الأخيرة، حيث سحبت استثناءات وتسهيلات كثيرة كانت ممنوحة لهم، ومنعت بعض جمعياتهم من العمل، وبات المقيمون منهم شبه ملزمين باستصدار جوازات سفر من قنصلية بلدهم، فيما «التوقيف الاحترازي» لبعضهم قد يمتد إلى أجل غير مسمى إن لم ينته بالترحيل (غالباً الى السودان). أما الجندرمة فتملك ضوءاً اخضر لإطلاق النار على كل من يحاول اختراق الجدار الحدودي المبني حديثاً بين البلدين، وقد فعلت ذلك عملياً وأسقطت ضحايا غير آسفة. تلك ليست بالطبع حالة شائعة أو عامة، ولكنها تعكس جواً من الاحتقان والنفور الشعبي الذي بات يتردد صداه في مراكز صناعة القرار. فقد اصدرت الخارجية التركية بياناً للتهدئة واعتبار ما يجري «تضخيماً للأحداث لغايات سياسية (...) بما لا يتوافق ومعايير حسن الضيافة ومبدأ الأنصار والمهاجرين»، وذلك عملياً ليس الا اعترافاً ولو جزئياً بمشكلة آخذة في التفاقم، سيما أن جزءاً لا يستهان به من الشعب التركي لا يستهويه الأنصار ولا المهاجرون.

لكن، وفيما علت اصوات سورية تصف لبنان بـ «الخطأ التاريخي والفائض الجغرافي»، وتتوعد اللبنانيين بعودة حكم العسكر فور سقوط نظام الأسد، ترافقت كلها مع استهزاء صريح بالبلد وأهله وتاريخه وكيل الإهانات لجيشه لما كان يفترض أن يمتدح به، أي «ضعفه»، تداعى سوريون مقيمون في تركيا الى حملة تنظيف شواطئ، وإطلاق مبادرات صداقة وأخوّة حيال الشعب التركي وتقديم الاعتذارات عما صدر من بعضهم من سلوكات تنافي العادات والتقاليد المحلية، فبدا أكثر من شرخ في بيئات اللجوء نفسها.

وبين تقية مفرطة هنا واستعلاء متضخم هناك، كلاهما مؤذ وغير ذي طائل، يتخبط اللاجئون بين واقع يومي مؤلم، ومصائر مجهولة ترسم لهم. ففي حين تريد تركيا أن تدفع بهم نحو مناطق «درع الفرات» شمالاً لإقامة حزام عربي يخضع لسيطرتها وفق اتفاقات «المناطق الآمنة»، يريد لبنان الرسمي والشعبي رميهم في فم الأسد وإعادتهم الى بلدات وقرى حدودية على المقلب الآخر من عرسال، والتي كان «حزب الله» سبب تهجيرهم منها وتدمير بيوتهم. والأسوأ والأمرّ أن هؤلاء لن يعيشوا تحت سلطة طرف ثالث وإنما سيضطرون للعودة الى كنف جلادهم، في مناطق تخضع إما لسيطرة «حزب الله» في شكل مباشر أو توضع تحت النفوذ الإيراني كما هي حال حمص.

وعليه، لن يبقى أمام اللبنانيين والسوريين على السواء إلا الإذعان للعودة إلى ما قبل 2011 وإن بصيغة أكثر عنفاً وقهراً. أما عن ذلك القانون الذي يفرض ألا يُعاد اللاجئ إلى أرض تهدد حياته او حريته، فالضمانة تأتي على شكل اتفاقات «مناطق آمنة»، وأخرى «يُخفّض فيها التصعيد»!