لعل أكثر الإشكاليات إرباكاً لخطابنا السياسي المعاصر سؤال العلاقة الملتبسة بين الدولة والديموقراطية. فهل يمكن تحول مجتمعاتنا العربية من أنظمتها الاستبدادية الى أنظمة ديموقراطية، قبل حسم السؤال المتعلق بالدولة كإطار عام يؤطر هذا التحول؟ وهل الديموقراطية ممكنة في مجتمعات فسيفسائية لم تتجاوز الانتماءات القبلية الى الانتماء الوطني الدولتي؟ وهل الدولة شرط مسبق لأي تحول سياسي اجتماعي إن في اتجاه الاشتراكية أو في اتجاه الوحدة القومية أو نحو الديموقراطية؟ أم أن هذه الأهداف الكبرى منوطة بسقوط الدولة ولا تنهض إلا على أشلائها وبمعزل عنها ومن دونها، انطلاقاً من قراءات أيديولوجية خاطئة ومن دون الأخذ بمعنيي الدولة والديموقراطية الحداثيين وانتمائهما الى سياق تاريخي واحد، إذ جاءت كلتاهما في سياق الثورة الحداثية التي أنجبت مفاهيم سياسية واجتماعية جديدة، من بينها مفاهيم الوطن والدولة القومية والديموقراطية والعقد الاجتماعي وحقوق الإنسان، وقد تبلورت جميعها في ترابط جدلي وثيق بحيث لا يمكن الأخذ بواحد منها من دون الآخر. الأمر الذي رتب علاقة تلازمية بين الدولة الوطنية وبين الديموقراطية المؤسسة على العقد الاجتماعي، وبصفتها خياراً طوعياً بين مواطنين أحرار متساوين في الحقوق والمواطنية.
إلا أن الدولة العربية المعاصرة لا تزال خارج هذا الإطار المفاهيمي الحداثي، إذ إنها، كما يرى عبدالله العروي، لم تقترن قط في ظهورها ونموها، بفكرة الحرية بمعناها الغربي. فللحرية في الفكر الإسلامي معنى غيبي، بينما هي في الفكر الغربي تحمل معنى سياسياً واجتماعياً، وبينما ربط الفكر الليبرالي مفهوم الحرية بمفهوم القانون، وبالتالي بالدولة، إذ حدد روسو ومونتسكيو الحرية بطاعة القوانين وعمل كل ما تجيزه، واقتداءً بهؤلاء حدّد النهضوي فرنسيس المراش الحرية بالتعبد لأحكام دولة التمدن والصلاح، فإن مؤشرات الحرية ورموزها في المجتمع الإسلامي هي خارج الدولة أو ضد الدولة – البداوة، القبلية، التصوف – حيث ثمة إقصاء متبادل بين مفهوم الحرية ومفهوم الدولة في المجتمع العربي الإسلامي، فكلما اتسع مفهوم الدولة ضاقت مساحة الحرية. والى الآن، لا يزال بعض المفكرين العرب يوافقون على أن التقليد المهيمن للتراث الإسلامي كما وصلنا ليس ليبرالياً أو ديموقراطياً، حتى أن الطاهر لبيب يتساءل ما إذا كانت الديموقراطية في حقيقة الأمر مطلباً اجتماعياً في العالم العربي؟
أصل الإشكال أن الأقطار العربية أسست لجهازها البيروقراطي قبل أن تظهر الأسس الاجتماعية والمدنية للمجتمع السياسي، على عكس الغرب حيث سبق تكوين الأمة تكوين الدولة. الأمر الذي أسّس لدولة عربية «ضارية» على تضاد مع مجتمعها بحيث لا تستطيع التعامل معه إلا من خلال القسر والقوة السافرة. ولذلك باتت المجتمعات العربية أمام خيارين أساسين: إما وحدة مفروضة بالقوة وإما التذرّر الى دويلات طائفية وإثنية وجهوية. هذا ما حصل في ليبيا والعراق وسورية، وهو ما يهدّد كل الأقطار العربية ما إن تضعف أو تتلاشى قبضة السلطة واستبدادها، وتتراجع ضراوتها. من هنا بالذات ذهب الحراك التغييري العربي الى طرح أسس الدولة وهويتها عوض أن يذهب الى طرح شرعية السلطات ومساءلتها في ضوء عقد اجتماعي جديد. ولهذا أيضاً خسرت حركات التغيير الشعبوية العربية الرهان إزاء أنظمة استبدادية عرفت كيف تجعل من استبدادها «ضمانة» وحدة الأقطار العربية و «عصمتها» من الانزلاق الى التفتت العصبوي.
لقد أدرك الدعاة القوميون والاشتراكيون العرب، وإن متأخرين، أن الوحدة العربية أو الاشتراكية لا يمكن بناؤهما على أنقاض الدولة، دولة «الطبقة السائدة» أو دولة «التجزئة المصطنعة» بل عبر التفاعل مع هذه الدولة تفاعلاً إيجابياً وبناءً. ونرى أنه آن الأوان، بعد سنوات عجاف على اندلاع الانتفاضات العربية، كي يدرك العرب أن التحول الديموقراطي لا يمكن إلا أن يتم في «الدولة» ومن خلالها، لا بوصفها «العصبية الغالبة» بالمعنى الخلدوني، بل باعتبارها راعية «العقد الاجتماعي الديموقراطي» والساهرة على حقوق الأفراد والجماعات. هكذا كانت سيرورة ديموقراطية الغرب التي أرست حقوق الإنسان وحريته وأمنه الفردي والجماعي، ولا نرى للديموقراطية مستقبلاً في بلادنا إلا إذا مضينا في هذا الاتجاه. سواه ارتكاس خائب الى عصبوياتنا، وتأبيد لمحنة مجتمعاتنا، وابتعادنا أكثر فأكثر عن حلم الحرية والديموقراطية.
* كاتب لبناني |