التاريخ: تموز ٤, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
هل تدرك القيادة الفلسطينية الأخطار التي تهدد شعبها؟ - ماجد كيالي
تتجمّع التحديات أمام الرئيس الفلسطيني محمود عباس على الأصعدة كافة، بوصفه رئيساً لمنظمة التحرير والسلطة وقائداً لحركة «فتح»، بحيث بات يصعب تصوّر كيفية خروجه منها أو تصوّر قدرته على حلّها، بعد أن وصلت الحال إلى هذه الدرجة من الترهل والتدهور، إن بالنسبة الى وضعية الكيانات الجمعية الفلسطينية، أو على تحقيق انجاز ما بالنسبة الى مسار عملية التسوية مع إسرائيل.

على صعيد الكيانات الجمعية، المتمثلة بالمنظمة والسلطة والفصائل والاتحادات الشعبية، فقد باتت كلها بحاجة إلى التجديد، ليس فقط في ما يتعلق بشرعيتها، التي أضحت متآكلة أكثر من أي فترة مضت، إذ إن ذلك يشمل أيضاً مراجعة بناها وتجربتها وخطاباتها، كما إعادة تأهيلها كي تستعيد طابعها كياناتٍ لحركة تحرر وطني لشعب ما زال يعاني من الاحتلال وافتقاد الحقوق والهوية، بعد أن أضحت كيانات سلطة تتعايش مع سلطة الاحتلال، أو تشتغل بالتوازي معها، في واقع من حكم ذاتي، لجزء من شعب على جزء من أرض مع جزء من الحقوق والسيادة، أو في واقع أقل من دولة وأكثر من حكم ذاتي، لكيان سياسي يسمح له بعلم ونشيد وتمثيل سياسي خارجي فقط لا أكثر من ذلك.

منذ البداية، أي منذ الانخراط في برنامج أوسلو (1993) كان أحد الأخطاء الرئيسية للقيادة الفلسطينية التخلي طواعية عن منظمة التحرير، أو قبول تهميشها لمصلحة السلطة، في ظل وهم تحويل الكيان الفلسطيني في الضفة والقطاع دولة، على رغم أن ذلك جرى باسم المنظمة. بيد أن التجربة أثبتت أن هذا الأمر، وضمنه الجمع بين رئاستي المنظمة والسلطة، لم يشتغل لمصلحة الأخيرة بمقدار ما اشتغل لمصلحة اتباعها للسلطة، بدليل أن قرار المجلس المركزي (آذار/ مارس 2015) المتعلق بمراجعة الاتفاقيات مع إسرائيل ووقف التنسيق الأمني جرى إهماله وكأنه لم يكن. وعموماً، فإن هذا الأمر أثّر سلباً على قضية اللاجئين الفلسطينيين أولاً، وأوحى ثانياً بإمكان إزاحة السردية الفلسطينية المتعلقة بالنكبة وإقامة إسرائيل (1948) لمصلحة السردية التي تعتبر أن الصراع بدأ مع احتلال إسرائيل الضفة والقطاع (في حرب 1967)، واختصر الفلسطينيين ثالثاً، من الناحية العملية، بفلسطينيي الضفة والقطاع، أي المواطنين في مناطق السلطة، سيما أن هذه السلطة لم تعتبر نفسها ممثلة للفلسطينيين في أماكن تواجدهم كافة، وهي عموماً لم تترجم ذلك في هيئاتها وهياكلها وبرامجها. وخلخل هذا الأمر رابعاً إدراكات الفلسطينيين في أماكن تواجدهم كافة لذاتهم بصفتهم شعباً واحداً، سيما أنه لم تعد ثمة جهة مرجعية، كمنظمة التحرير، تعبر عنهم أو تمثلهم.

وهكذا، فإن المشكلة هنا أن القيادة الفلسطينية، وعلى رغم مرور ربع قرن على تجربة أوسلو المجهضة، لم تقم بأي عملية مراجعة نقدية ومسؤولة، إذ لم تعمل على إعادة تفعيل المنظمة بإعادة بنائها، كما أنها أبقت على الجمع بين الرئاسات الثلاث (للمنظمة والسلطة وفتح) في شخص واحد، على رغم أن الرئيس أبو مازن كان انتقد ذلك وطالب بالفصل بين الرئاسات، في مرحلة سابقة، إبان نقده الزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات.

لا يقتصر الأمر على المنظمة، إذ إن السلطة الفلسطينية باتت بمثابة سلطة أمنية أكثر من كونها سلطة لإدارة مجتمع الفلسطينيين وتقديم الخدمات لهم. يتضح هذا من حجم التنسيب في الأجهزة الأمنية المختلفة، ومن حجم الامتيازات التي يحظى بها المنتسبون لهذه الأجهزة، ومن الوظائف الموكلة لهم، وأهمها ضبط المجتمع الفلسطيني، إن للسيطرة عليه أو في مواجهة إسرائيل.

أما بخصوص حركة «فتح»، فلا تبدو الأوضاع أحسن حالاً، حتى مع عقد مؤتمرين لهذه الحركة (في عامي 2009 و2016)، إذ أضحت بمثابة حزب للسلطة، أو حزب للرئيس، وأقرب إلى كونها حركة للفتحاويين في الضفة والقطاع، بحكم تركيبة المؤتمرَين والنتائج التي تمخضا عنها، علماً أن هذه الحركة لم تقم بأي مراجعة لمسيرتها، تلك الفترة على الأقل، أي بمعزل عن الفترات السابقة. وهكذا، لم تجر في المؤتمرين مراجعة أسباب انحسار شعبية حركة «فتح» وخسارتها الانتخابات التشريعية أمام حركة «حماس» (2006)، ولا مراجعة كيفية خسارة «فتح» قطاع غزة، على رغم وجود عشرات الألوف من أجهزتها الأمنية فيها، ولا مراجعة خيار التفاوض والتسوية، ولا كيفية استعادة هذه الحركة دورها وفاعليتها في مجتمعات الفلسطينيين.

وفي ما يخص الخيارات السياسية، فثمة ما يثير التساؤل عن إصرار القيادة الفلسطينية على المضي باتفاق أوسلو، وخيار الدولة المستقلة في الضفة والقطاع، على رغم إطاحة إسرائيل بهما وكلِّ الوقائع الجارية على الأرض، في حين أن هذه القيادة لا تملك القدرة على فعل أي شيء لتغيير المعادلات القائمة. والحال أن الرئيس الفلسطيني كان تحدث عن خيارات كثيرة، إلا أنه لم يفعّل أياً من هذه الخيارات على النحو المناسب، كما لم يمهد أو يؤهل بنى السلطة والمجتمع الفلسطيني لأي خيارات بديلة أو حتى موازية. ومع إدراكنا لمحدودية قدرات الفلسطينيين، لا سيما في هذه الظروف العربية والدولية، إلا أن الحديث هنا لا يدور على إعلان حرب، أو الحض على امتشاق السلاح على النحو الكارثي الذي حدث في الانتفاضة الثانية مثلاً، وإنما يدور على الأقل عن وضع المراهنات والتوهّمات جانباً، والبحث عن رؤى سياسية جديدة تلهم روح الكفاح عند الشعب الفلسطيني، وتعزز إدراكاته لذاته بصفته شعباً، وتنمي هويته، وتطور كياناته السياسية الجمعية، في الداخل والخارج، وهي كلها أمور في يد الفلسطينيين على رغم الصعوبات والتعقيدات.

في هذا الإطار، لا شك في أن الانقسام في كيان السلطة، بين الضفة والقطاع، أو بين سلطتَي «فتح» و «حماس» يشكل نزيفاً لقدرات الفلسطينيين، وعائقاً أمام قدرتهم على مواجهة التحديات الإسرائيلية، وعامل احباط بالنسبة الى الشعب الفلسطيني في أماكن تواجده كافة. لكن ما يجب أخذه في الاعتبار هنا أيضاً، أن قيادات الحركتين، «فتح» و «حماس»، لم تعملا على ما من شأنه رأب هذا الصدع الخطير، فالحديث يدور عن مليوني فلسطيني في غزة يعانون الحصار منذ عشرة أعوام، والمؤسف أنه ليس في إدراك كلتا الحركتين إمكان العمل مع الاختلاف، وكأن العمل السياسي يبنى على التطابق، لا على المشتركات والاختلافات، وهو إدراك يفيد بتخلف الوعي السياسي عند الفلسطينيين، على رغم غنى تجربتهم، كما يفيد بتكريس نظرة قيادتي الحركتين إلى واقعهما بصفتهما سلطتين بدلاً من كونهما حركتَي تحرر وطني كما يفترض. وما يفاقم هذا الأمر تغليب «حماس» طبيعتها بصفتها حركة إسلامية على طابعها حركة وطنية، مع امتداداتها أو ارتباطاتها وارتهاناتها الإقليمية.

ولعل ما يفاقم أثر هذه التحديات، مع التعقيدات والصعوبات الكامنة فيها، واقع أن حركة التحرر الوطني الفلسطينية لا تشتغل في مجتمع وإقليم محددين، في ظل تمزق مجتمع الفلسطينيين وتوزعهم على بلدان عدة، وخضوعهم لسلطات مختلفة ومتعددة، هذا أولاً، وثانياً ارتهان هذه الحركة، في ما خص تحصيل مواردها، للدول المانحة، أي اعتمادها على الخارج بدل اعتمادها على شعبها. وثالثاً أن عدوها يتفوق عليها ليس في موازين القوى والإمكانات فقط، وإنما في الإدارة، وفي توحده ضدها، إذ يدور الحديث عن دولة ومجتمع استعماريين واستيطانيين وعنصريين وأيديولوجيين/ يهوديين.

ثمة مسألتان تفاقمان أيضاً التحديات والمشكلات المذكورة، أولاهما أن الحركة الوطنية الفلسطينية المفترضة، تواجه خطر تفكّك مجتمعات اللاجئين، وربما اختفائها، كما حدث في العراق ولبنان وسورية، بينما هي لا تستطيع شيئاً، أو لا تملك حتى أي شيء تقوله، ولو للفلسطينيين فقط، وذلك في سبيل الحفاظ على علاقاتها وعلى وضعها بوصفها سلطة. وثانيتهما، أن كل ذلك يحدث في ظل أفول فكرة الصراع العربي- الإسرائيلي، أو ما يسمى «القضية المركزية»، ولا سيما في ظل هذا التدهور المريع في أحوال دول ومجتمعات المشرق العربي، وخاصة مع ظهور مؤشرات باحتمال قيام نوع من سلام إقليمي مع إسرائيل، سواء أعجب ذلك الفلسطينيين أم أغضبهم.

الآن، هل تدرك القيادة الفلسطينية حجم المخاطر والتحديات التي تواجه قضية فلسطين وشعبها؟ وهل تقوم بعمل ما عليها لخلق المعادلات التي تمكّن من تفويت المخاطر؟ أو ما الذي تفعله هذه القيادة حقاً؟


* كاتب فلسطيني