التاريخ: تموز ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
الإرهاب والطبيعة البشرية و... الأزمة الغربية - وحيد عبدالمجيد
لم يكن انتصار الغرب الأميركي – الأوروبي على الكتلة السوفياتية في الحرب الباردة دليلاً على قوة الديموقراطية الليبرالية التي تصور فرانسيس فوكوياما وآخرون ذات يوم أن التاريخ انتهى عندها. كان ذلك الانتصار دليلاً على خواء النظام الديكتاتوري بمجمله، وليس الماركسي في نسخته الستالينية فقط. ولذا كان الخطأ في تشخيص دلالته، والإغراق في تفاؤل غير تاريخي، وراء الاستهانة بالتاريخ، والاعتقاد بأنه انتهى عند الديموقراطية الليبرالية.

ولم تمض سنوات حتى لقن التاريخ من استهانوا به درساً موجعاً، فدخل الغرب الديموقراطي أزمة أخذت تتفاقم، وما زالت. ومع أن هذه ليست المرة الأولى التي سخر فيها التاريخ ممن استخفوا بتعقيداته، كان سهلاً أن يقع من تخيلوا أنه بلغ نهايته في فخه مجدداً. فالنموذج الغربي لم يكن منبتّ الصلة بحسم الحرب الباردة. فقد كان نمط الحياة الحرة فيه جاذباً لفئات متزايدة في مجتمعات فُرض عليها العيش وراء ستار حديدي.

كان نمط حياة الإنسان في الغرب أهم مكونات قوة الدول التي خرجت منتصرة في الحرب الباردة. لكن هذا النمط نفسه أصبح عنصر ضعف عندما حقق الإرهاب نجاحه الوحيد الذي لا يقدر على غيره: الترويع الذي يدفع إلى قيود أمنية، ويؤدي إلى انتشار الكراهية، في البلدان التي يضربها.

عشر سنوات فقط فصلت بين نهاية الحرب الباردة الدولية، وبداية حرب عالمية على الإرهاب أطلقتها الولايات المتحدة رداً على هجمات أيلول (سبتمبر) 2001. لم يشهد العالم بعد تلك الهجمات ما يماثلها حجماً. لكن القيود التي تُفرض تحت شعار تحقيق الأمن، ومواجهة الإرهاب، ازدادت منذ 2001 في الأغلب الأعم. كما أن من ارتكبوا تجاوزات مستغلين هذه القيود يلقون حماية حتى بعد إلغائها أو تخفيفها، مثل مسؤولين أميركيين توسعوا في اعتقال مشتبه بهم عقب هجمات 2001، وأصدرت المحكمة العليا في 19 الشهر الماضي حكماً بمنع مقاضاتهم.

ومع أن القيود التي تُفرض لمواجهة الإرهاب استثنائية ومحدودة، بخلاف تلك التي تعيش في ظلها بلدان أخرى في منطقتنا وغيرها، فإنها تزداد وتنتقل من الأرض إلى الفضاء الإلكتروني بعدما حقق «داعش» نقلة في استخدامه لتجنيد متطرفين منذ 2014.

وفي هذه الأجواء، تُحدث أية عملية إرهابية في أوروبا ذعراً هائلاً أياً كان حجمها وأثرها. ويظهر الهلع أحياناً بوضوح في تصريحات مسؤولين كبار يفترض أنهم أوعى بحكم خلفياتهم الحزبية والسياسية من المواطن الذي يزيدونه خوفاً. يفقد بعضهم أحياناً القدرة على التفكير في مغزى ما يقولونه قبل انزلاقه على ألسنتهم. كانت هذه مثلاً حال رئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي حين قالت، عقب عملية لندن الإرهابية في 4 حزيران (يونيو) الماضي، ما معناه أنها مستعدة لتمزيق أي قوانين إنسانية تحول دون تطبيق إجراءات مكافحة الإرهاب. سقط من ذاكرتها التي عطلها الهلع أنها سبق وحذرت من منح الإرهابيين نصراً لا يستحقونه في حال «تغيير نمط حياتنا وتخلينا عن حريتنا». وبدا أنها نسيت أن هدف الإرهاب الأول في الغرب هو تغيير نمط الحياة الحرة ونشر الكراهية التي لم تمض أيام حتى تسببت بعمل إرهابي مضاد استهدف بريطانيين مسلمين لدى خروجهم من مسجد، وبالطريقة نفسها، وهي الدهس بشاحنة.

وإذا صح أن الخوف لا يُميز بين ديموقراطيين ومستبدين كونه شعوراً إنسانياً طبيعياً، يصبح السؤال ضرورياً عن علاقة الإرهاب بالطبيعة البشرية الهشة وأزمة الديموقراطية في الدول التي كان متصوراً أن التراكم الذي حققته في الحريات والحقوق الإنسانية على مدى أجيال أكسبها مناعة ضد الانتكاس والارتداد.

وعلى رغم أن لحياة كل إنسان فرد قيمة كاملة بحد ذاتها، يصعب تجنب إغراء المقارنة بين أعداد ضحايا العمليات الإرهابية وضحايا حوادث السير مثلاً. يفيد أخر إحصاء صادر عن منظمة الصحة العالمية في نهاية 2016 بأن متوسط من يقضون نحبهم في حوادث سير سنوياً يبلغ 1.25 مليون في العالم. وهذا يؤكد أن خطر الإرهاب على القيم الإنسانية أعظم منه على حياة البشر. ويؤدي الهلع الشديد الذي تُحدثه أية عملية إرهابية مهما كان حجمها إلى تعاظم هذا الخطر، ومن ثم تفاقم أزمة البلدان الغربية التي تصبح مهددة بتغيير نمط حياة بدا منذ ربع قرن أنه الأفضل من حيث علاقته بالتقدم والإنجاز والنجاح، فضلاً عن قبول ذرائع من النوع الذي تسوقه حكومات مستبدة، مثل أن الحرية تُمكّن الإرهاب من تسديد ضرباته، أو تضعف القدرة على توفير الأمن للناس.

كما يجدر تأمل المفارقة المتضمنة في اختفاء نظرية استحالة وجود أمن كامل أو مُطلق عندما تقع عملية إرهابية، مع أنها تحضر بقوة في أي نوع من الحوادث التي يسقط فيها ضحايا لأسباب مختلفة. وثمة تفسير قد يبدو منطقياً لهذه المفارقة، وهو أن الإرهاب اعتداء مُدبَّر ومُخطَّط، بخلاف الحوادث التي تقع بسبب أخطاء بشرية أو بحكم «القضاء والقدر». لكن النتيجة واحدة في الحالتين، وهي أن بشراً يفقدون حياتهم. ولذا ربما يكون الفرق الأكثر دلالة أن البشر تعودوا بحكم الزمن على الحوادث التي تقع نتيجة أخطاء، بخلاف الإرهاب الذي يكشف مدى هشاشة الطبيعة البشرية، ما دام الإنسان مستعداً للتضحية بهذا المقدار أو ذاك من حريته من أجل الأمن الذي لم يثبت أن الاستبداد يضمنه.

ولا تصح الاستهانة بأهمية الطبيعة البشرية في هذا المجال لأن الآثار النفسية والسياسية للإرهاب تتجاوز أثره الفعلي في أي مكان يضرب فيه، ولا تقتصر على البلدان الغربية، كونها لصيقة بالخوف الذي يسكن الإنسان ويُحرّكه فيجعل حرصه على حياته مُقدَّماً على اهتمامه بنمط هذه الحياة. ولذا نجد فرنسياً يتمتع برغد الحياة الحديثة مستعداً للتضحية بشيء من حريته مقابل الأمن، مثله في ذلك مثل مصري أو إثيوبي فقير يقبل مزيداً من الفقر والاستعباد مقابل حمايته من إرهاب يخيفه ويهدد بقاءه حياً حتى لو كانت حياته سلسلة متصلة من الآلام والهموم.

وهكذا ربما يفيد تأمل العلاقة بين الإرهاب والطبيعة البشرية والأزمة الديموقراطية في الغرب في فهم بعض أهم أبعاد ما يحدث في عالمنا اليوم.