إزاء تصاعد الأصوليات الدينية في موازاة النزعات القومية والشعبوية، يحتاج عالمنا الحديث إلى بناء أخلاقية إنسانية استيعابية، منفتحة وتعددية، تساهم في تجاوز تناقضاته المتعددة، وهو الدور الذي يدعيه تيار ما بعد الحداثة، خصوصاً في صيغته الفرنسية ذات الطابع الشكي، والنزوع التفكيكي العميق.
ما ندعيه، في المقابل، أن هذا التيار لم يثبت قدرته على التخفيف من حدة الهم الإنساني، بل إنه ربما أسهم في تعميقه، وأن المكون القادر على إخراج الحداثة إنما هو الروحانية العميقة التي تمثل جذراً قوياً لشعور عام بالتعالي الإلهي، قادر على تحفيز نوع من التراحم الإنساني، بغض النظر عن الدين الإسمي (يهودية، مسيحية، إسلام، هندوسية، بوذية).
في سياق الحداثة الباكرة كان الشاغل الأساسي هو القدرة على تعقل الكون وكشف أسرار الطبيعة، بالاستقلال عن الله، وليس في ضدية لوجوده، أما في سياق الحداثة الفائقة فبلغ رفض الألوهية حداً متطرفاً، إما نفياً لوجودها من الأصل أو الادعاء بغيابها إثر الحضور الطاغي للعلم الحديث. وهكذا فإن أقصى ما قدمته الحداثة للدين، يتمثل في عدم التعصب ضده، وأقصى ما قدمته لـ «الله» يتمثل بعدم نفي وجوده، حيث كان الهدف من ذلك معرفياً بالأساس، يسعى إلى الخلاص من كل أثر للميتافيزيقا في العلم. فإن لم تكن هناك قدرة على نفي تلك الميتافيزيقا، فمن الممكن إزاحتها ولو إلى أعلى، فتتعالى على العقل من دون أن تصطدم به، ويتم الخلاص منها (عملياً)، لتنساب مسيرة العلم، حيث نهضت الحداثة بالأساس، على قاعدة تناغم جوهري بين ثلاثية: العقل والطبيعة والإرادة.
العقل كفعالية معرفية تستطيع التعاطي الموضوعي مع الطبيعة وتوظيفها بدلاً من هالة القداسة التي طالما ميزتها وأحاطت بها في الفكر التقليدي، الديني أو الميثولوجي. والإرادة باعتبارها انعكاساً للذات الإنسانية الحرة، القادرة على الاختيار، وعلى الخلاص الذاتي من دون سيطرة كهنوتية. والطبيعة باعتبارها مجالاً لفاعلية العقل والإرادة الإنسانيين، أو لممارسة المعرفة والحرية فيها بغرض تسخيرها والانتفاع بها.
وطالما استمرت هذه الثلاثية مهيمنة من دون إضافة جذرية لها نكون بصدد الحداثة ككينونة مستمرة، وإن ولجت إلى آفاق صيرورة جديدة، تمثل مرحلة أعلى في تلك الكينونة ذاتها. بوضوح نقول: إن الحداثة نظرت إلى وجود الله باعتباره انتقاصاً من ثقتها بتلك الثلاثية. وفي المقابل فإن جوهر ما قامت به ما بعد الحداثة، هو إنكار المعتقدات الموروثة والثورة عليها، عبر التشكيك بالقصص العظيمة، والسرديات الكبرى، التي طالما شغلت العقل الإنساني حتى اعتبرت وكأنها من مسلماته التي لا يمكن التفكير إلا انطلاقاً منها.
وهنا يعطينا فرانسوا ليوتار، الرائد التفكيكي الأبرز، مثلين متناقضين في الاتجاه، متفقين في الدلالة، على الدور المفترض لما بعد الحداثة.
المثل الأول هو الدين، الذي تمحور حول السردية الأعظم في تاريخ الفكر البشري: قصة «الإله»، خالق الكون وراعيه، خالق الإنسان وراعيه، والمتحكم بأقداره. وهكذا تبدو ما بعد الحداثة قريناً لمرحلة أعلى من رفض الله، تضاف إلى ما كانت الحداثة نفسها قد ادعته على لسان نيتشه، كممثل للتيار الإلحادي في التنوير، تبعاً لنبوءته الشهيرة في الثلث الأخير من القرن التاسع عشر.
وأما المثل الثاني، فهو الإلحاد نفسه، الذي اعتبره ليوتار بمثابة قصة الزمن الحديث، التي أطلقت مقولات مضادة للقصة الأولى بنوع من التعميم يحتاج هو الآخر إلى التفكيك. ومن هذه الزاوية قد ينظر البعض إلى ما بعد الحداثة وكأنها ردة عن النزعة المادية للحداثة، أو الميول الإلحادية في التنوير. والواقع أن ما بعد الحداثة لم تقصد إلى التأكيد على الإلحاد، أو على الألوهية، بل إلى التشكيك بالأسس الجوهرية التي تجعل من كلتيهما سردية كبرى وإطاراً ناظماً، يُنظر إلى العالم من خلاله، بغية نزع المبالغة والتعميم عن مسيرتيهما. وهكذا تقوم ما بعد الحداثة بتعميق التوجهات النسبية للحداثة إلى مستوى يقارب العدمية. فلم تعد الحقيقة فقط نسبية، بل صارت كذلك بالغة الذاتية أو حتى غير ممكنة من الأصل.
وما نزعمه هنا أن تلك الإضافة التي تقدمها ما بعد الحداثة تظل غير كافية لخلق كينونة / سردية جديدة بديلة عن الحداثة، بل إنها تمثل حركة في الاتجاه العكسي، لأنه إذا كان اليقين الديني التقليدي قد صنع دوغما قوضتها الحداثة بتصوراتها النسبية عن مفهوم «الحقيقة»، فإن المبالغة بتلك النسبية، إنما تؤدي إلى إرهاق الروح الإنسانية، وتفضي إلى اغتراب الكثيرين عن ما بعد الحداثة، ومن ثم فإن الرغبة في صوغ وعي جديد يستحق وصف «الما بعد» لا يكمن في تعميق النسبية إلى حد العدمية كما يذهب أنصار النزعة التفكيكية، بل في التحرك باتجاه أمرين أساسيين:
أولهما استعادة الحدود التوازنية لتصوراتنا عن الحقيقة، باعتبارها نسبية ولكن ممكنة، فثمة مثال أعلى لها لا يمكن بلوغه، لكن مهمة تجسيده موضوعياً بأقدار مختلفة من النجاح تبقى ممكنة، فالحقيقة قائمة فعلاً، وتجسيدها أمر ممكن جداً بدرجات نجاح متفاوتة. فالمهم أن لا نسمح لأحد بأن يدعي الامتلاك الحصري لها، أو الحق المطلق في تجسيدها.
وثانيهما صياغة علاقة خلاقة مع الدين، تستحيل فيها الإلوهية جذراً، تنطلق منه متتالية الحداثة (العقل / الإرادة / الطبيعة)، يستطيع من خلال موقعه البدئي فيها أن يقدم لها إطاراً أخلاقياً فاعلاً يستند إلى غطاء وجودي سميك، يتم معه استيعاب ما بعد الوجود في الوجود. فهذا هو الشرط الأساسي للولوج إلى كينونة جديدة أرقى، تستحق تسمية موجبة، تحمل هويتها الخاصة، ولا تكتفي بالانتساب السلبي إلى الحداثة، أو الإحالة علىها، باعتبارها فقط «ما بعدها». |