التاريخ: حزيران ١٣, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
نهايات التاريخ كأشكال للخلاص الإنساني! - صلاح سالم
لم يكن مفهوم نهاية التاريخ جديداً تماماً عندما طرحه فوكوياما مطلع التسعينات، وإن تبدى مع الرجل أكثر صراحة وجرأة عن كل الطروحات السابقة، التي طالما تغذت على رغبة عميقة، كامنة في تيار الوعي الإنساني، في الوصول إلى نهاية للتاريخ الذي عرفناه ولا نزال نعيشه باعتباره حيزاً زمنياً ممتداً للصراع والتدافع بين الأجساد والأفكار، وإن اتخذت هذه الرغبة أشكالاً ثلاثة أساسية:

الشكل الأول ديني يعتقد بنهاية التاريخ فقط عند حدوث القيامة التي تختلف صورتها بين الأديان التوحيدية، لكنها جميعها تتفق على أن يوم القيامة، كنهاية للتاريخ، هو في مثابة لحظة تقع خارج عالمنا نحن، وهو أمر يعني أن الزمان التاريخي الذي نعيشه لن يكون أبداً خالياً من الصراع والتدافع بين الأمم، والحضارات، وأن المشيئة الإلهية وحدها تستطيع إيقاف هذا الصراع في عالم الغيب، الذي يتم فيه الحساب والجزاء بالثواب أو العقاب.

وتمثل «مدينة الله» التي دعا إلىها القديس أوغسطين في القرن الخامس الميلادي، نموذجاً لليوتوبيا المسيحية التي لم تتحمل انتظار نهاية التاريخ الواقعي، أي الملكوت الأرضي، فسعت إلى خلق تاريخ مثالي مواز له، من خلال الفصل بين المدينة السماوية والمدينة الأرضية، وتقديم السماء على الأرض، حيث اختصر أوغسطين السماء في الكنيسة التي هي مدينة الله، كما اختزل الأرض في الدولة التي هي مدينة الإنسان أو الشيطان، التي لا تملك أية سجايا أخلاقية خاصة بها، وما يحدد انتماءها للإنسان أو الشيطان إنما هو قدرتها على العمل في خدمة الكنيسة. وهكذا ابتلع التاريخ المقدس نظيره الدنيوي، من دون أن ينهيه فعلياً، أو يمنحه معنى مغايراً قادراً على الحياة.

والشكل الثاني وضعي يعتقد بنهاية ممكنة للتاريخ في عالم الشهادة نفسه، أي على هذه الأرض، حينما يتمكن الإنسان الفاضل من تأسيس فردوس أرضي يخلو من دوافع الشر. وهنا، فإن نهاية التاريخ لا تعني زوال عالمنا مادياً، بل تعني فقط أن هذا العالم سيخلو من الصراعات الكبرى، والانقسامات الجذرية بين البشر فلسفياً وأيديولوجياً، بحيث يصير التاريخ سكونياً، ويصير الشعور الإنساني بحركته أقرب الى شعور راكب الطائرة بحركتها الناعمة الملساء في الفضاء الأعلى، منه إلى شعور راكب السيارة بوعورة الطريق، حيث خشونة سطح التربة أو حركة كثبان الرمل الرجراجة. وربما كانت جمهورية أفلاطون أول محاولة لتأسيس هذا الفردوس من داخل العصر المحوري، تلتها محاولة الفيلسوف المسلم الفارابي من داخل العصر الوسيط، قبل أن تنفجر تلك المحاولات في العصر الحديث. وهنا نتوقف فقط عند يوتوبيا توماس مور (1478 – 1535) من قلب عصر النهضة، وفيها يصف نظاماً تسوده الملكية العامة وعلاقات المساواة وتلغى فيه مؤسسة الأسرة على طريق استئصال دوافع الصراع وتحقيق التماسك والانسجام.

تتوزع يوتوبيا مور على أربع وخمسين مدينة مرة واحدة، كلها بتصميم واحد، باستثناء واحدة هي العاصمة. فجميع الشوارع عرضها 20 قدماً، وكل المنازل الخاصة متماثلة بدقة. لكل منها باب على الشارع وباب على الحديقة. ولا أقفال على الأبواب، وكل شخص يمكن أن يدخل أي منزل، والأسقف مسطحة، وكل عشر سنوات يغير الناس المنازل للحيلولة دون الشعور بالملكية. ويُنتخب بعض الرجال ليصبحوا رجال معرفة، ويُعفون من كل عمل آخر. وجميع المعنيين في الحكومة يختارون من رجال المعرفة. والحكومة ديموقراطية ممثلة، لها نظام الانتخاب غير المباشر، وعلى رأسها أمير ينتخب لمدى الحياة، لكن يمكن إسقاطه إذا استبد. واليوتوبيون لا يفكرون بالمرة في المجد العسكري، وهم يلجأون الى الحرب لثلاثة أغراض: يدافعون عن أراضيهم حين تغزى، ويستردون أرض حليف لهم من الغزاة، ويحررون أمة مضطهدة من الاستبداد.

أما الشكل الثالث فتلفيقي، ولعله الأكثر خطورة من بينها، إذ يستند إلى أفكار دينية (صهيون اليهودية – مملكة المسيح الألفية – المهدي المنتظر الشيعية)، لكنها تمارس حضورها داخل عالمنا هذا وزماننا نفسه. تتغذى نهايات التاريخ التلفيقية هذه من تأويلات إنسانية لنص مقدس، لتلبي طموحات روح مأزومة، تبغي تجاوز لحظات ضعفها، باتجاه نزعات هيمنة سياسية أو دعاوى تفوّق استعلائية.

وتمثل النزعات المشيخية في اليهودية بجلاء هذا المفهوم التلفيقي للخلاص، إذ تضع اليهود في مركز التاريخ، الذي يأخذ في الدوران من حولهم حيث يتركز الغرض الإلهي فيهم (شعب الله المختار)، هم الذين سيعانون كل الآلام، إلى أن يأتي المخلص ويقضي على أعدائهم، ويضع حداً لآلامهم، فيجمعهم من شتات الأرض ويعود بهم إلى صهيون، ليؤسس مملكته هناك، حيث يتحقق السلام الكامل والفردوس الأرضي.

وثمة العقيدة الألفية في المسيحية الإنجيلية التي تشي بنوع من الخلاص ينال المؤمنين فقط، يدوم لألف عام تسبق مباشرة، أو تلي، هبوط المسيح على الأرض. وفي سياق هذه العقيدة، يبدأ فعل الخلاص من المشيئة الإلهية نفسها التي تحضر طواعية في التاريخ البشري، ويستجيب لها الإنسان فقط كما هو في العقيدة ما قبل الألفية، أو يعمل الإنسان وفق تصور مسبق لتنفيذ هذه المشيئة فينجز من الأعمال ما يهيئ الأجواء لحضور الإرادة الإلهية، كما الأمر في العقيدة ما بعد الألفية.

وهناك أيضا النزعة المهدوية الشيعية أو عقيدة المهدي المنتظر التي أسست للمذهب الإمامي الاثني عشري، الذي ألهم أيضاً مفهوم ولاية الفقيه، وحفَّز الثورة الإيرانية، ولا يزال حاكماً في إيران، مدعياً القداسة السياسية، مانعاً التنوع البشري الخلاق من أن يفعل فعله أو يعكس نفسه في رؤى تتباين مع رؤاه أو تخرج عن سياقه، باعتباره فعل الله الفاضل في التاريخ، والذي يتوجب على الفعل الإنساني أن يتوقف عنده، أو يحتشد خلفه، ومن لم يفعل وبسرعة كان أقرب إلى الشيطان، كبيراً كان أم صغيراً.

المفارقة أن التاريخ لم ينته أبدا، ولن ينتهي قريباً، وأن كل دعاوى الخلاص التي سعت إلى استعجال نهايته باعتبارها نهاية للصراع الإنساني، هي نفسها التي تورطت ولا تزال تتورط، في شكل أو في آخر، في أكثر صراعات عالمنا دموية.

* كاتب مصري