هل من فارق بين طبيب مهمل أودى بحياة مريضه، واحتمى بشبكة فساد تقيه حساب القانون، وبين قاتل أقدم على إعدام ضحيته في الطريق بعد خلاف على أفضلية المرور، علماً أن الثاني استعان بسلاح وفره له أيضاً فساد موازٍ وبشعورٍ بفائض قوة وفره له صدوره عن جماعة أهلية أتاحت السلطات لها اقتناء السلاح لقتال «العدو».
الدولة المستباحة في لبنان أتاحت لنوعي القتل هذين أن يتصدرا الحياة العامة في الأسبوعين الفائتين. لكن النوع الأول من القتل أخذ طابعاً «وطنياً»، وأثار نقاشاً «مدنياً» حول قوانين حماية المريض من هوس التسويق ومن المستشفيات المستفيدة من نفوذ أصحابها لدى المسؤولين، فيما نوع القتل الثاني، ولبنان شهد منه في الأيام القليلة الفائتة أكثر من خمس وقائع، ذهب النقاش حوله إلى «الطائفة المسلحة» وإلى شعور القاتل بأن القتل مباح لمن هم من جماعته.
والحال أن فساد الدولة في الحالين أفضى إلى إزهاق أرواح مواطنين. فالفساد جوهري وليس شكلياً حتى نقول إن مكافحته لا توازي بأهميتها مطلب نزع السلاح من يد جماعة أهلية. والدولة هذه، ولكي ترضي جماعاتها «غير المسلحة» وسعت لهم هامش فساد غير مسلح. ولهذه المعادلة أسماء وقواعد اشتغال منذ اليوم الأول لدولة ما بعد الطائف. فقد قُدمت رشاوى لطوائف في مقابل سلاح لطوائف أخرى. وجرى ذلك بدرجة عالية من المرونة. الطائفة المغبونة بالسلاح عُوضت بالفساد، وفي أحيان أخرى تُغبن «الطائفة المسلحة» بحصتها من الفساد فيعوض عليها بالتعيينات الإدارية، أو بإعفاء مناطقها من دفع فواتير الكهرباء. ثم يأتي دور الطائفة التي تدفع فواتير الكهرباء، فتصدر تعيينات عسكرية يتصدر فيها ضباطها المواقع.
هذه دوامة الفساد التي أسسها حاكم لبنان العسكري غازي كنعان فور انعقاد الجمهورية اللبنانية الثانية في العام 1990. وهي خدمت في شكل أساسي فكرة «الدولة المقاومة» التي أوكلت للبنان في سياق النزاع الإقليمي. فأن تتيح البيانات الوزارية المتتالية لجماعة أهلية اقتناء السلاح، فإن في ذلك تدميراً لفكرة السلطة سيتيح لاحقاً نفاد الفساد إلى كل مستويات الحياة العامة. القاتل في الأسبوع الفائت لم يأتمر بجماعته حين قتل ضحيته بعد خلاف مروري، لا بل أن جماعته سرعان ما تخففت منه ومن فعلته. لكن القتل هنا كان امتداداً لسلاح له «شرعيته». والطبيب الذي أودى بحياة مريضه، استعان بنظام حماية موازٍ، ليست الطائفة ركيزته، إنما شعوره بأن التخفف من قواعد العمل أمر تتيحه سلطة فاسدة يمكن شراء كل شيء فيها طالما أن وظيفتها تعويض غبن لحق جماعاتها جراء قبولها بالمهمة الأولى، أي مهمة «الدولة المقاومة».
في لبنان يمكن الحديث عن فساد الطوائف في موازاة فساد الدولة ونخبها وبيروقراطييها. فللفساد شبكة واسعة من الحمايات الاجتماعية، بالإضافة إلى الحمايات السياسية والأمنية. للفاسد بيئة أمان وملاذات طائفية وإعلامية وطغم مالية حاكمة.
من يردّ سلاح القاتل إلى طائفته المسلحة عليه أن يتذكر أنه اقترع في الانتخابات لتكتل الإصلاح والتغيير أو لتيار المستقبل أو لوليد جنبلاط، وهؤلاء وافقوا على السلاح في البيان الوزاري، وتقاضوا لقاء ذلك مناصب ورئاسات ووزراء فاسدين ومستشفيات غير مجهزة.
القتيل واحد، وهو يرقد في براد المستشفى إلى جانب ضحية الطبيب المهمل. والنتيجة واحدة أيضاً، أطفال يُتم، وأم ثكلى. والنظام الذي أنتج القابلية لنوم قتيلين متجاورين، هو من أنتج قاتلين، واحد أنيق وآخر مدمن قتل ومخدرات.
المسارعة إلى إدانة عبارة أن «الشعب فاسد أيضاً»، بصفتها نوعاً من الصواب السياسي، لم تعد كافية. فالنخب السياسية والمذهبية المسؤولة عن هذا الخراب جميعها منتخبة وسيعاد انتخابها قريباً، و«الشعب» الذي ينوء تحت أثقال فسادها يُدرك أنه ذاهب إلى مقصلته في يوم ذهابه إلى صندوق الاقتراع، وهذا لن يثنيه عن الاقتراع لقاتله. الطائفية أقوى من المستقبل وأقوى من الحياة. الجثة الراقدة في براد المستشفى ستقترع لمن أودى بحياتها. هذا هو لبنان على ما يبدو، وفي أحسن الأحوال سيعوض لبنانيون شعورهم بالغبن بأن يدفعوا عن أنفسهم ثقل الجريمة عبر ردها إلى «طائفة مسلحة». |