قلما يتمّ الانتباه عندما تُطرح المسألة الدينية في المنطقة العربية، وحين يدعو كثيرون، في سياق الحضّ على الإصلاح الديني، إلى حصر الدين في الجانب الفردي استناداً إلى التجربة الغربية، أنّ هذه الأخيرة تعرضتْ في العقود الأخيرة لمراجعات وسجالات تتعلق بموقع الدين في المجال العمومي داخل المجتمعات الغربية، وأن هذا السجال يكاد يبلغ ذروته مع حالات التطرف والإرهاب التي مسّت هذه المجتمعات، والتي كان يقف، للأسف، خلفَ أكثرِها أفرادٌ مسلمون.
الموضوع الديني حاضرٌ منذ فترة في الحملات والمناظرات الانتخابية في أوروبا وأميركا، ليس من زاوية الحديث عن الإرهاب والتطرف الإسلامي فقط، بل كذلك من زاوية إعلان المرشحين والناخبين عن مدى التزامهم ما يمليه عليهم دينهم ومعتقدهم حيال المسائل المجتمعية الرئيسية، مثل الإجهاض والزواج المثلي وسوى ذلك، وهو ما وجدناه، مثلاً، في انتخابات فرنسا، التي لطالما مثّلت نسخة متشددة من التجربة العلمانية. فقد تابعنا وقت الانتخابات الرئاسية الأخيرة مرشح اليمين فرنسوا فيون يُقحم انتماءه الكاثوليكي والكنيسة الكاثوليكية في المعترك الانتخابي والسياسي. وعلى رغم ما ووجه به ذلك من انتقادات من شخصيات عامة من أمثال رئيس الحكومة السابق إمانويل فالس، فإنه يمثّل عينة لما يشهده السجال حول الدين من تحولات لها اتصال بأسئلة تتعلق بانفجار الهويات الدينية وإشكالات العولمة، وما أفرزته النيوليبرالية من تصدعات في بنى اجتماعية واقتصادية كان من المفترض أنها استغنت بالحداثة عن التوسل بالمقولات الدينية في الإجابة عن أسئلة الذات والآخر والمصير والنظرة إلى العالم ومشكلاته، وهي أسئلة باتتْ أكثر إلحاحاً مع تنامي تأثير الوجود الإسلامي في المجتمعات الغربية من جانب، وتصاعد قصص التطرف والإرهاب في تلك المجتمعات، التي نفذها مسلمون، من جانب آخر.
هذا التنبيه مهمٌ لدى البحث عن إصلاح الإسلام، فلا تلامسُ العقلانيةَ والحكمةَ أيُّ دعوةٍ لإقصاء الدين من المجال العمومي. ذلك أنّ «سحر العالم» لم يزُل كما تنبأ ماكس فيبر، و»الخروج من الدين» في التجربة الأوروبية، وفق مارسيل غوشيه يصطدم اليوم بتراجع نموذج الدولة الوطنية وانخفاض قدراتها الإدماجية. لذا، يبدو ضرورياً إعادة الاعتبار إلى أفكار يورجن هابرماس في تنظيره للتواصل والفضاء العمومي والحداثة والمواطنة، وهي أفكارٌ تضع الدين في صلب القيم العمومية المدنية، وفي صلب المجال العام. وهذا الفهم مختلفٌ عن وضع حاجزٍ طويلٍ بين الدين والشأن العام، أو حصر الدين في البعد الفردي فقط. بمعنى آخر، فإن التواصلية تقدّم نسخة من التنوير العقلاني غير الإقصائي، وهي تعني تكييفاً للدين، لأن حضوره في المجال العمومي يتطلب عدم التفريط بحرية التعبير والمعتقد والضمير، وعدم التفريط بمنجز فصل الدين عن الدولة وتعزيز مركزية الإنسان وحقوقه. أيْ أنّ شروط اللعبة تقتضي عدم إقصاء الدين من المجال العام وعدم حصره في المجال الفردي مقابل قبوله بما أنجزته الحداثة من حقوق وحريات وقوانين مدنية، ستكون المدخل لإنتاج لاهوت جديد، وإعادة تشكيل مضامين الإيمان وأنماط التدين، والتعويل على أنّ الرافد الإنساني الحرّ والعقلاني والأخلاقي يُعيد تفسير النصوص الدينية عبر تغيير الفهم الذاتي للنصوص وتوسيع خيارات التأويل الفردي وعقلنة المعنى والمقدس، وبما يكفل أن تنداح مضامين الدين في العقل العمومي، وتثري النقاش العام، من دون وصاية أو مصادرة لمكتسبات الإنسان من حقوق وحريات، وهو ما سيعزز التفاعل التواصلي حين يلتقي الدين والحداثة على قيم العدل والرحمة والصدق والمساواة وبأن «الإنسان: حقوقه وحرياته وكرامته وإرادته المستقلة أولاً»... وأنه لا ضررَ ولا ضِرار.
* كاتب أردني. |