التاريخ: حزيران ٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة النهار اللبنانية
تفتيت أميركي روسي يَرِث سايكس بيكو الأوروبي - وليد عربيد
في الذكرى المئوية الأولى لإتفاقية "سايكس بيكو" يشهد الشرق الأوسط عملية إعادة تفكيك وتركيب "Remodelage" للمنطقة العربية، ما يثير التساؤلات عن مصير هذه الاتفاقية التي شكلت الإطار التاريخي الجيوسياسي للنظام العالمي منذ مئة عام وصولاً الى وقتنا الحالي، وإنعكس على الشرق الأوسط وتحديداً سوريا، كمرتكز مرجعي تحليلي. 

انقسم قرن سايكس بيكو الى حقبات من النزاعات والصراعات تميز كل واحد منها بتغييرات في موازين القوى، وبنتائج متفاوتة ومتباينة لهذه الصراعات، وانعكس كل ذلك في العلاقات الدولية والنظام العالمي.

الحقبة الأولى : في بداية القرن العشرين وتحديداً في عام 1916 مع توقيع إتفاقية سايكس بيكو، بين القوتين الإستعماريتين بريطانيا وفرنسا. تلا هذه الإتفاقية وعد "بلفور" عام 1917 الذي أمن الغطاء للكيان الإسرائيلي الغاصب لاقامة دولته في أرض فلسطين. ومع إنهيار الإمبراطورية العثمانية في الشرق، وتقاسم إرثها في المنطقة من قبل القوى الإستعمارية المنتصرة، فأعطت عصبة الأمم الحق لفرنسا بالإنتداب على لبنان وسوريا، ولبريطانياعلى العراق وفلسطين وفي ما بعد على الأردن.

الحقبة الثانية: هي فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية مع إنعقاد مؤتمر يالطا، بين الدول المنتصرة آنذاك، اي الولايات المتحدة والإتحاد السوفياتي وبريطانيا، وقد شاركت فرنسا التي لم تنتصر طبعاً، بقوة الدفع البريطاني، لاقامة نوع من التوازن مع الروس والأميركيين.

الحقبة الثالثة: بدأت منذ سنة 1991 مع إنهيار الإتحاد السوفياتي وسقوط جدار برلين، وإنتصار الولايات المتحدة، ما جعل العلاقات الدولية الاستراتيجية تدخل حقبة جديدة تميزت بموازين قوى جديد، كرست الولايات المتحدة كلاعب أوحد على الساحة الدولية. وقد امتدت هذه المرحلة ما بين عامي 1990 و 2003. وقد كان ابرز تجلياتها دخول المنتصر في الحرب الباردة اي الولايات المتحدة الى العراق، برئاسة جورج بوش الأب الذي امتلك ثلاثة عوامل جعلته قادراً على تنظيم إرث الإنتصار على الإتحاد السوفياتي، وكيفية جعل الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة في العالم.

واليوم ثمة حقبة جديدة بدأت مع ما سمي "الربيع العربي"، واهم محطاته سوريا حيث تبين ان عنوان هذه الحقبة سيكون إعادة التفكيك والتركيب اي الـ remodelage للفضاء "espace" الذي يتكون منه العالم العربي، والفضاء هو مصطلح سياسي جديد في العلاقات الدولية حل مكان مصطلح " المدى الإستراتيجي" والأزمة السورية هي أحد العوالم "les mondes" التي تشكل هذا الفضاء العربي. وهذا ما قد يضع نهاية لاتفاق سايكس بيكو من خلال ابتداع تقسيمات جديدة.

هل ستصمد اتفاقية سايكس بيكو، ويعاد ترميم ما افرزته من دول وانظمة وتوازنات دولية، ام تتعرض لاعادة نظر بالدم والدمار، فتتشكل دول جديدة، هي عبارة عن كانتونات طائفية ومذهبية واتنية، متقاتلة متناحرة؟ وهل سيتم اعادة توزيع مغانم الدول العربية على الاقطاب الدوليين والاقليميين، ام ان قوة الحدود التي رسمتها اتفاقية سايكس بيكو صارت من المسلمات التاريخية؟

تلعب سوريا دوراً مهما في إعادة التركيب والتفكيك هذا نظراً لموقعها الجيوبوليتيكي الإستراتيجي، حيث تشكل حجر الزاوية في مرور أنابيب النفط، فخلال مؤتمر دمشق في عام 2010 الذي شارك فيه الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، وأمير دولة قطر حمد بن جاسم آل ثاني، والرئبس التركي رجب طيب أردوغان، طُلب من الرئيس السوري بشار الأسد السماح بمرور انابيب النفط او الغاز القطرية الى تركيا مقابل جعله زعيماً للعرب، إلا انه رفض لأن مرورها يشكل إضعافاً للبلد الأقوى ضمن عالم متعدد الأقطاب اي روسيا. وقد عرفت روسيا ذلك لذا لم تتراجع عن دعمه خلال الأزمة، لأن قوتها تكمن في سوريا.

اليوم فان المشهد السوري يختصر كل الحكاية. ويمكن عرض ابرز محطاته على النحو الآتي:

- حتى عندما سنحت لها الفرصة، امتنعت الولايات المتحدة عن الدخول مباشرة في معركة اسقاط النظام، كي لا تفتح باب تقسيم سوريا.

- نجحت روسيا بامساك الوضع السوري بقبضة حديدية، وباتت تتحكم بمسار الصراع، ليس فقط بالمعارك التي يخضوها النظام، بل وايضا، وخصوصا، بتدخلات هذه القوة الاقليمية او تلك، مثل تركيا وإيران.

- دخلت تركيا بقوة على خط عدم تقسيم سوريا، خلافا لما يبدو، فالهدف التركي الاستراتيجي يبقى منع قيام كيان كردي في سوريا، او في العراق، لاسباب معروفة لا تخفى على احد.

- جاء التدخل العسكري الاميركي المحدود في الشمال السوري لمنع تركيا من التمدد أكثر هناك، واذا كانت ذريعة هذا التدخل هي قتال داعش، فان الهدف الحقيقي هو حجز مقعد اساسي للولايات المتحدة وليس لتركيا او لاوروبا، على طاولة التفاوض النهائي مع روسيا حول سوريا.

- من جهة ثانية يشكل التدخل الاميركي صفعة لاوروبا، وخصوصا فرنسا، التي سبق لها ان دعت الى حسم معركة الرقة دون ان يكون لها القدرة على ذلك، وجل ما فعلته هو سلسلة غارات جوية، ردا على هجمات داعش الارهابية في قلب اوروبا.

- انكفأت ايران عن معركة سوريا بعد ان اطمأنت الى بقاء حليفها بشار الاسد في السلطة، وبقاء سوريا موحدة، وانصرفت طهران الى معركة العراق المجاور، للقضاء على خطر داعش.

- الهدنة الاميركية الايرانية مستمرة، وقد صارت في العراق اتفاقا وتحالفا عسكريا على الارض من خلال توحيد الجهود للقضاء على دولة داعش، ابتداء من الموصل عبر الحشد الشعبي (الشيعي) ووصولا الى الرقة، ومناطق سورية اخرى يشارك حزب الله فيها نيابة عن طهران.

- التفاهم الاميركي - الروسي حول سوريا (والعراق ايضا)، غير معلن ولكنه واقعي، ويعمل على تحقيق بعض الاولويات، قبل الشروع في وضع اسس الوضع النهائي. هذه الاولويات هي انهاء دولة داعش، وتهشيم البنى الارهابية الاخرى التي عملت بعض دول الخليج على انشائها وتقويتها.

- تركت الولايات المتحدة الاميركية حلفاءها الخليجيين يغرقون في المستنقع اليمني، لأن معركة السيطرة على المنطقة العربية تجري في مكان آخر، وتحديدا في سوريا والعراق.

في هذين البلدين سيتقرر مصير اتفاقية سايكس بيكو، وعلى ما يبدو، ثمة مساع اميركية وروسية لوراثة هذه الاتفاقية وتكريسها بعد ضمها الى رصيديهما، بالهيمنة على كل الارث الاوروبي في المنطقة العربية.

أستاذ في الجامعة اللبنانية