التاريخ: حزيران ٤, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
دولة المواطَنة وأعداؤها - محمد الحدّاد
على مــدى القرنين الماضيين، ترتب على عولمة النموذج الغربي تدمير البنيات والمؤسّسات التقلـــــيدية في المجتمعات الغربية خاصة، ثم في المجتمعات الأخرى، وذلك للتــخلّص من كلّ العوائق التي تعطّل حرية الأســـــواق وحيويتها وطابعها المعولم. وقد نشــأت الدولة الوطنية الحديثة في هذا السياق لتكون البديل عن البنى التقليدية وأداة لهدمها.

لكن في السياق الحالي، يتجه منطق السوق إلى التخلّص أيضاً من الدولة الوطنيّة، باعتبارها أصبحت بدورها عائقاً أمام حركة رؤوس الأموال. هذه الثورة اليمينية للأسواق ضدّ الدولة، وقد بدأت في ثمانينات القرن العشرين في إنكلترا والولايات المتحدة الأميركية، حققت انتصاراً اقتصادياً على الأيديولوجيا الشيوعية المنافسة وأغلقت عهد الثورات الاشتراكية الذي بدأ سنة 1917. ثمّ ما فتئت تسعى بعد ذلك إلى تحقيق انتصار سياسي على نظرية الدولة الوطنية ودورها في تسيير الاقتصاد.

ولقد وظّفت الحركات الدينية الأصولية في المعركة الأولى ضدّ الأنظمة الشيوعية والاشتراكية في الكتلة الشرقية والعالم الثالث على حد سواء، وهي تستعمل اليوم في المعركة الثانية ضدّ الدولة الوطنية. وهي حركات ترفع شعار العودة إلى الدين وتعتمده أداة من أدوات المعركة، لكنّه شعار مخادع، لأنه لا يهدف إلى عودة حقيقية إلى البنى التقليدية التي كانت تستند في جزء كبير منها إلى الشرعية الدينية، وقد انهارت من دون رجعة. ولا هو معبّر عن تديّن بالمعنى الحقيقي والوجودي للكلمة. لكنه استقطاب للأتباع بدعوى الثأر لتلك البنى، وباستعمال الحنين المترتب على تمثلات طوباوية للماضي. وهو يغيّب تبعاً لذلك العوامل العميقة التي كانت المتحكم الأقوى في تلك التغيرات، ويحجب هذه العوامل في تفسير المتغيرات الحالية أيضاّ.

أجل، الدولة الوطنية في الشكل الكلاسيكي لم تعد ممكنة التواصل، لكن السؤال المطروح بعد ذلك: ما هو الشكل الحديث المرغوب للدولة؟ وما هي علاقة الدولة بالسوق؟

اليسار العربي حوّل الماركسية إلى أيديولوجيا محنّطة غير قادرة على تفسير المتغيرات المتراكمة منذ الثورة الصناعية التي عاصرها ماركس. لذلك يفشل اليسار العربي في فهم هذه المسارات المعقّدة للأحداث، ربما أيضاً لأنّ الكثير من ممثّليه ما زال يعيش حنيناً آخر لدولة البروليتاريا وطوبى المجتمع غير الطبقي، فيواجه خيالاً بخيال وأسطورة بأخرى. وهو يتجاهل أو يتناسى أن الدولة الوطنية تدمّر اليوم عالمياً باسم الليبرالية وأنّ الماركسية لم تنتج منوالاً نظرياً متجانساً للدولة، بمقدار ما أنتجت تجارب استبدادية فاشلة.

أمّا الإسلام السياسي فقد أغلق كل إمكان لمناقشة حقيقية للموضوع، عندما حوّله من الاستدلال إلى العقيدة ومن العقل إلى الانفعال، وذلك باختزال القضية في مصطلحات وشعارات فضفاضة يمكن أن تحشر تحتها مسميات مختلفة ومتناقضة. مشكلة عبارات مثل «الإسلام هو الحل» و «الدولة الإسلامية» و «الاقتصاد الإسلامي» و «البديل الإسلامي»...، أنها تعبّر عن تطلعات صادقة أحياناً ومشروعة، فهي نتيجة عدم الرضا عن السائد، لكنها لا تقدّم أي بديل واضح لهذا السائد، ويمكن بسهولة أن تتخذ مطية لاستبداله بالأسوأ، إنها بمثابة الصكّ على بياض، رصيدها مخزون ضخم من الانفعالات يمكن أن تدفع إلى الاحتجاج والتضحية لكنها غير قادرة على بناء شيء ما، إنّها مقاولات بنّائين من دون أمثله هندسية متفق عليها.

وهي عندما تصبح قادرة على التأثير فإنها تسفر عملياً عن إحدى نتيجتين: إمّا التردي في العنف المدمّر كي تظلّ وفية لمقولاتها الطوباوية، أو أنّها تنخرط كلياً في الثورة اليمينية وتصبح خادمة لها من منطلقات واقعية ومنفعية في الآن ذاته.

فإذا كانـــت الدولة الوطـنية في الشكل الكلاسيكي لم تعد قادرة على الاستمرار، فإنّ تجدّدها لا يحتاج إلى أي حنين أيديولوجي، في أي شكل كان، وإنما يحتاج إلى رؤية واقعية محورها تحديد وظيفة الدولة في تحويل الصراعات الاجتماعية من دائرة العنف إلى دائرة التوافق، وتوسيع هذا التوافق تدريجياً ليشمل أكبر عدد من الأشخاص. وهذا ما يمكن أن تعنيه اليوم عبارة «دولة المواطنة».

من هنا، فإن رفض الدولة الدينية لا يعني رفض المتدينين في الدولة، ولا رفض الحضور الديني في المجتمع، على عكس ما هو مفضوح أو مستبطن في الأطروحات اليسارية، وإنما هو نتيجة منطقية وطبيعية لمبدأ المواطنة.