التاريخ: حزيران ٢, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
استبعاد فلسطينيي الـ ٤٨ من إطار الحركة الوطنيّة الفلسطينيّة - ماجد كيالي
لم تستطع الحركة الوطنية الفلسطينية إيجاد المعادلات التي تمكّن من استيعاب فلسطينيي الـ48 في إطارها، في أي طريقة أو مستوى، أي أن هذا الجزء من الشعب الفلسطيني لم يتم استبعاده أو عزله في الإطار العربي فقط، وإنما حصل ذلك في الإطار الفلسطيني، أيضاً.

فوق ذلك، فإن هذه الحركة ليس فقط لم تستفد من تجربة فلسطينيي الـ48 في الكفاح ضد السياسات الاستعمارية والاستيطانية والعنصرية الإسرائيلية، وإنما هي عملت على استبعادها، أو التقليل من شأنها، في محاولتها احتكار السيرة النضالية للفلسطينيين في مواجهة إسرائيل.

وأعتقد أن هذا الوضع أضرّ بمفهوم وحدة الشعب الفلسطيني وبتجربتهم الكفاحية، حيث حركتهم الوطنية لم تستفد من تجربتهم ولم تعتنِ بها، بل حاولت التقليل من شأنها، أو التأثير عليها بدلاً من التأثر فيها.

بديهي أن ما تقدم دلالة على تخلف الحركة الوطنية الفصائلية وجمودها، وغطرسة قياداتها، التي حاولت حصر السردية النضالية الفلسطينية عن الصراع مع إسرائيل، والتي غلبت عليها العسكرة والعمل السياسي الشعاراتي، واستبعاد المسائل التي تتعلق بالجانب الحقوقي والمعاشي للفلسطينيين وكيفية تدبّر أمور مجتمعاتهم والارتقاء بها، وتنمية مواردها، وهو أمر على غاية في الأهمية بالنسبة الى مجتمع تعرض للتمزق والحرمان من الحقوق والهوية.

في هذا الإطار، ربما يمكن الجزم بأنه لو استفادت الحركة الوطنية الفلسطينية في الخارج، والتي عادت كسلطة إلى الضفة والقطاع، من التجربة السياسية لفلسطينيي الـ48، لتجنبت كثيراً من المشاكل والأخطار والأثمان.

هذه هي الانطباعات التي تعززت لدي خلال وجودي في البلد، حيث أتيحت لي الفرضة للمشاركة بفعاليتين: الأولى، «مؤتمر القدرات البشرية، الذي نظمته «لجنة المتابعة العليا»، وهي في مثابة الهيئة التمثيلية الأعلى لفلسطينيي الداخل في مدينة الطيبة في المثلث. والثانية، ندوة «خمسون عاماً على احتلال القدس»، التي عقدت في القدس الشرقية، ونظمتها جامعة القدس والقائمة العربية المشتركة.

هاتان الفعاليتان هما جزء من فعاليات كثيرة اعتاد فلسطينيو الـ48 إقامتها لتنظيم أنفسهم، والتعبير عن وحدتهم، والارتقاء بأشكال كفاحهم لتعزيز صمودهم كشعب للحفاظ على هويتهم، والكفاح من أجل المساواة، ومواجهة سياسات الأسرلة والتهويد الإسرائيلية، والتي اعتدنا السماع بها من دون تفحص إمكان نقل هذه التجربة في مجتمعات اللاجئين الفلسطينيين في الخارج.

الفكرة هنا أن ما أتيح لفلسطينيي الـ48 لم يتح لفلسطينيي سورية ولبنان والأردن، وغيرها من بلدان اللجوء، إذ افتقدت هذه التجمعات القدرة على التعبير عن ذاتها، في شكل مستقل عن السلطات في بلدانها، أو عن «المجتمع» الفصائلي الذي فرض سياساته وهيمن على مجتمعات الفلسطينيين وثقافتهم السياسية، بحيث أن هذه المجتمعات لم يتح لها إيجاد التعبيرات التي تمثلها، في شكل مستقل عن الفصائل، كما لم تتح لها مناقشة حاجاتها وأولوياتها الخاصة بحكم استهلاكها في العمل السياسي، كما صاغته الفصائل، مع كل الاحترام لنضالاتها، على رغم ما لها وما عليها.

يبلغ عدد فلسطينيي الـ٤٨ حوالى 1.4 مليون نسمة، وثمة أطباء ومهندسون ومحامون وأكاديميون. أي أننا إزاء رأسمال بشري غني ومتنوع وكبير، وهم يواجهون في كل قرية أو بلدة أو مدينة، حيث ثمة تجمعات أو غالبية سكانية عربية، سياسات وإجراءات تؤكد طابع إسرائيل كدولة استعمارية، استيطانية/ احتلالية، وعنصرية وأيديولوجية (دينية)، هذا ينطبق على هضبة الجولان والضفة الغربية والقدس الشرقية كما ينطبق على المدن والقرى العربية الباقية، أو التي نجت من الإزالة، في إسرائيل ذاتها.

هذا ما لمسته من زيارتي بعض المدن والقرى الفلسطينية في أراضي الـ٤٨ وفِي الضفة، إذ قامت السلطات الإسرائيلية بتدمير معظم أحيائها، أو تغيير معالمها، وحتى تغيير أسماء الأماكن فيها، أي عبرنتها، في سياق جهدها لتهويد الأماكن.

القصد أن كلمة التهويد ليست شيئاً بسيطاً، لا سيما منه القائم على الأيديولوجيا الدينية، وعلى خلفية استعمارية، وهو ينطوي أيضاً على التغيير الديموغرافي، والحرص على تشكيل غالبيات يهودية في مختلف الأماكن، كما ينطوي على خنق، أو محاصرة، الأحياء العربية، وتضييق مجالها الجغرافي، وتقييد إمكانات تطورها، كما على التمييز في مستوى مختلف الخدمات، إذ من السهولة التمييز بين أماكن السكن العربية واليهودية.

في مدن مجدل شمس (في الجولان السورية)، ويافا على الساحل، والقدس الشرقية، ورام الله في الضفة، المجال الحيوي للعرب ضيق جداً، بينما التجمعات أو المستوطنات اليهودية ذات مجال حيوي مفتوح، وتحتل أعالي المرتفعات دائماً، والأهم أنها تقطع التواصل بين التجمعات السكنية العربية. فوق ذلك، استولت إسرائيل على بيوت الفلسطينيين والمنشآت التي تركوها (1948)، بدعوى أنها أملاك غائبين، من دون تمكين العرب من الانتفاع منها، كما تم الاستيلاء تماماً على ما يسمى أراضي الدولة، وباتت ملكاً لها، حتى أنها قامت بانتزاع أملاك خاصة للفلسطينيين المقيمين في الضفة والقدس الشرقية والجولان لأغراض أمنية أو استيطانية أو خدمية. في ذلك كله، تستخدم إسرائيل وسائل الإزاحة، إزاحة الفلسطينيين (والسوريين في الجولان) من المكان والزمان، وتشتغل على أسرلتهم، بالمعنى المخفف أو المشدد للكلمة، وهذا يشمل الرواية التاريخية، إذ إن عبرنة أسماء الأماكن تنطوي على إنتاج رواية تاريخية لها، يجري تلقين الأجيال اليهودية بها، وهو أمر تنجح فيه بتشكيل إدراكات اليهود، وهذا ما تعمل عليه ليس في أوساط اليهود الإسرائيليين فحسب، وإنما حتى في أوساط يهود العالم، التي تحرص على جلبهم، ولو كسياح، إليها، وتنظم لهم رحلات إلى مختلف الأماكن، وتعرفهم عليها باعتبارها أرضهم «من الأبد إلى الأبد»، مع روايات تاريخية، من شأنها خلق روابط تاريخية وعاطفية بينهم وبين تلك الأمكنة، وتشكيل ذاكرة يهودية تنسجم مع وجود إسرائيل وسياساتها.

قصارى القول، يحاول الفلسطينيون مواجهة سياسات الأسرلة والتهويد والتغيير الديموغرافي بكل إمكاناتهم، لإيمانهم بحقهم، وتشبّثهم بأرضهم، وبوحدتهم كشعب، وبالتأكيد فإنهم يستثمرون في الديموقراطية الإسرائيلية المتاحة، وفي مستوى التعليم الذي يحظون به.

ثمة ما يفيد بأن الحركة السياسية لفلسطينيي الـ٤٨ تتطور بينما هي، في إطار الحركة الوطنية الرئيسة، في حالة أفول أو جمود.
 

* كاتب فلسطيني / سوري