التاريخ: أيار ٢٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
عن العلاقة الجدلية بين العلمانية والديموقراطية - صلاح سالم
ثمة تصور اختزالي افتضح أمره بالأمس مع فشل الحكم «الإخواني» في مصر، ويبدو في سبيله للافتضاح اليوم في تركيا الأردوغانية، والذي يتمثل في إمكان تشييد نظام ديموقراطي على غير أساس من مثل الحداثة السياسية، كالدولة القومية والعلمانية السياسية والنزعة الفردية. فثلاثتها طبقات راسخة لا بد منها للطبقة الأخيرة المتمثلة في الديموقراطية، تلك العملية الإجرائية ذات الطابع التمثيلي التي يجرى التنافس من خلالها على السلطة، اكتساباً وتداولاً. فلا الروح الوطنية المتجذرة في دولة - أمة يمكن التغاضي عنها باعتبارها النطاق الجغرافي لهذا التنافس وذاك التبادل. ولا العلمانية السياسية يمكن التنكر لها، كونها الضمانة الأكيدة للمساواة الكاملة بين الفاعلين السياسيين، وللحياد التام بين المتنافسين. ولا النزعة الفردية يمكن التخلي عنها باعتبارها لبنة أولى في ثقافة المشاركة السياسية، تضمن الحضور الواعي للفرد كمواطن يتعين عليه الاختيار الرشيد بين متنافسين يدرك خلفياتهم الأيديولوجية ولا ينتخبهم على أساس هويته هو أو انتماءاتهم هم القبلية أو الدينية أو الطائفية. ومن ثم تأتي الديموقراطية باعتبارها ثمرة جميلة لهذه المتوالية.

أما محاولة تجاهل إحدى حلقاتها فالأغلب أن تفضي الى كوارث سياسية، لأنها تضاد طبيعة الأشياء ومنطق التاريخ، وهو ما يتبدى خصوصاً في العلاقة بين العلمانية والديموقراطية.

وبقدر ما أن العلمانية ضرورة لإرساء الديموقراطية، فإن الأخيرة تعمل كآلية لترشيد العلمانية، بدفعها بعيداً عن الأشكال الراديكالية (الوجودية أو الفائقة) باتجاه الحدود المقبولة (السياسية أو المعتدلة). فقد سطعت مقولة نهاية الدين، التي مثلت الحد الأقصى لادعاءات التنوير المادي والحداثة الفائقة حول مستقبل الدين في عالمنا، في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما تحدثت عن موت الله أو رحيله عن عالمنا، انطلاقاً من اعتقاد متعجل باستحالة وجود أديان كبرى تقبل بالعلمنة السياسية المعتدلة وتتعايش مع الحرية الفردية، ومن ثم توقعت نشوب معركة صفرية بينهما لا بد وأن تنتهي بهزيمة الدين والخلاص منه عبر صيرورة يسطع فيها الإنسان ويختفي الله، تنمو فيها الحداثة ويموت التقليد، تزدهر فيها العلمنة ويتجه الدين نحو الأفول.

وفي الحقيقة، لم تكن هذه المقولة مجرد طرح نظري بريء، بل كانت أقرب الى برنامج سياسي نهضت به بعض الحركات الاجتماعية والأحزاب السياسية، وتمت ممارسته بفاعلية أو في شكل قسري من أعلى كما كان الأمر في فرنسا، إذ لم يتوقف الأمر عند حد الفصل بين الدين والمجال العام السياسي أو تفكيك تحالف الكنيسة والإقطاع لمصلحة الطبقة البورجوازية الصاعدة، بل تمت مطاردة الدين في قلب المجتمع حتى وصل الأمر الى قلب الريف، حيث هدمت كنائس، وتحول بعضها الى دور لهو، ومنعت الطقوس في بعضها الآخر، وكفت الأجراس عن الرنين في بعضها الثالث، ناهيك بنزع ممتلكاتها في كل الأحوال بتوزيعها على الفلاحين أو تأميمها لمصلحة الدولة.

وشيء من ذلك حدث على الشاطئ الإسلامي، في تركيا الكمالية حيث مورست العلمانية، بروح متطرفة تكاد توصف بالأصولية، لأكثر من ثلاثة عقود منع خلالها التعليم الديني، وأوقف الآذان، وأُغلق بعض المساجد وقُمع كثير من مظاهر التدين في المجال العام، خصوصاً اللباس المحتشم للمرأة.

غير أن هذه الصيغة الفائقة من العلمانية قد هزمت تاريخياً بالفعل، هزمت في فرنسا بتنازلها عن غطرستها وأحاديتها، على رغم انتصارها سياسياً، بل بفضل هذا الانتصار، خصوصاً بعد اعتراف الكنيسة الكاثوليكية بها في المجمع الفاتيكاني الثاني (1962 - 1965) اعترافاً نظرياً وليس فقط واقعياً، حيث صارت حرية العقيدة راسخة ومتجذرة في مفهوم «الكرامة المقدسة للكائن البشري».

وعلى رغم استمرار هيبة الكنيسة بعد هذا المجمع، فإنها لم تقبل فقط الاعتراف الدستوري بالفصل بينها وبين الدولة، وبمبدأ الحرية الدينية، بل تخلت أيضاً عن أي محاولة لإنشاء أو رعاية أحزاب كاثوليكية، بغرض الدفاع عن حظوظها في السلطة، أو عن امتيازاتها الدنيوية، وظلت تعمل ضمن أطر المجتمع المدني وحده، الأمر الذي أفضى الى نتائج عدة إيجابية تمثلت في تحرير الدين من الدولة، وتحرير الدولة من الدين، وتحرير الشخص الإنساني كذات فردية، من هيمنة كليهما معاً، فامتلك حريته السياسية إزاء الدولة، وحريته العقدية إزاء الكنيسة، فكان انسحاب الدين من المجال العام وفك قبضته عن رقبة الدولة بمثابة انفراجة كبيرة قدمت له الحماية وسمحت باستمراره في قلب المجتمع، بإحالته الى أمر شخصي قد تنفذ بعض إشعاعاته الى المجال العام الاجتماعي. كما هزمت في تركيا بموت أتاتورك، ثم تراجع حزبه «الشعب الجمهوري» أمام أحزاب متتالية تصاعد انتماؤها الإسلامي تدريجياً، وتمكنت من إعادة تعريف هوية البلاد على نحو أكثر توازناً.

حدث هذا التحول عملياً بفعل الديموقراطية نفسها، لأن لكل مجتمع متمدين مرجعيته القيمية، التي لا يستطيع الإفلات منها ولو أراد بعض منتسبيه. ولأن تلك المرجعية إنما تؤكد حضورها وتفرز نفسها فقط من خلال الفضاء العام الذي يشغله الناس بقيمهم الراسخة، ويعكسه المشرعون المنتخبون بقدراتهم التمثيلية، حيث إن مركز السيادة يقيم في الدولة المدنية، والنظام السياسي العلماني هو الإرادة العامة للناس، القادرة من ثم على التحكم بتشكيل السلطة وممارستها، وانعقاد الشرعية واستمرارها. ولأن كل شعب، وهو في صدد صوغ مصائره، إنما يقوم بذلك على قاعدة قوامها الأساسي عناصر هويته وفي قلبها الدين، الذي تتخلل قيمه الجوهرية دساتير هذا الشعب وقوانينه، فما يفرزه البرلمان من تشريعات لا بد وأن تستلهم القيم المستقرة في هذا الضمير والمجمع عليها لدى الشعب. وهكذا يمكن التصدي للنزعات الراديكالية، وإرساء السلطة على قاعدة الاعتدال، حيث تبدو الديموقراطية ضرورة لترشيد العلمانية، بقدر ما أن العلمانية ضرورة أساسية لتدشين الديموقراطية، يتحرك بندول التاريخ بينهما بسلاسة واضحة، لا يمكن لها أن تستمر إذا ما دخل الاستبداد الى فلكها، فعندها تستحيل الى دائرة كهربائية مفتوحة تنقطع عبرها حركة التيار، أو الى دائرة تاريخية مغلقة ترتبك خلالها حركة المجتمعات.