يبـــدو الإنســــان العربي في مواجهة أيديولوجيات الإحباط، الاستشراقية والقــــومية والثقافوية التي تحاصره مـــــنذ القــــرن التاسع عشر الى الآن، أشبه بسيزيف وصخرته في الميتـــــولوجيا الإغريقية، لا يخلـــص مــن مأزق حتى يتربص بــه آخـر ليبقى في صراع عبثي مع قدره ومصيره.
منتصف القرن التاسع عشر، أعرب فرنسيس المراش إزاء التشرذم العصبوي للعرب، عن يأسه من التئام الأمة العربية في وحدة قومية، قد لا تتحقق، كما يقول، إلا بعد ألف عام وبقوة المعجزات، لانقسام العرب مللاً وطوائف وجماعات غير مندمجة وطنياً وقومياً يجهد كل منها في إلغاء الآخر.
هذه الرؤية القومية تتجدد مع قسطنطين زريق آخر القرن العشرين، إذ أعلن لا مشروعية الحديث عن «أمة عربية» أو عن «مجتمع عربي عام»، نظراً الى قصور أهلها عن تكوين ما يصح أن يدعى «مجتمعاً» أو «شعباً» وعجزهم عن تحقيق التكتل الوطني أو القومي، وهو الشرط الأول من شروط البقاء.
وإذ ثابرت أيديولوجيات القرن العشرين على تلك الرؤية القومية المحبطة، رأى القوميون أن الدولة القطرية العربية كيان مصطنع وتجزئة بغيضة، واعتبرها الاشتراكيون عائقاً أمام الأممية البروليتارية، وانشغل الإسلاميون بطوبى الأمة الإسلامية، الذي استمر حلماً يراود دعاتهم ومنظّريهم.
الى جانب أيديولوجيا الإحباط القومي، عرف العرب أيديولوجيا الإحباط الاستشراقي، حيث زعم إرنست رينان في 1883، أن جميع من يأمون الشرق يدهشهم «ضيق تفكير العرب والمسلمين وانغلاقهم بإحكام في وجه العلم وعجزهم عن الانفتاح على أي فكر جديد». ومع اعترافه بالعلم العربي والفلسفة العربية، رأى رينان أنهما بكاملهما من عمل مفكرين غير عرب وغير مسلمين. ومن موقف مشابه ترددت في الفكر الغربي والعربي على السواء، أطروحات صدام الحضارات العنصرية التي تحيل العرب والمسلمين الى تخلف أبدي، لأن ثقافتهم لا تعترف بالتطور وستظل تمنعهم عن الاندماج في الحضارة العالمية. وجد هذا الموقف من يتبناه من العرب، فرأى حسن حنفي أن أزمة الحرية في واقعنا العربي تمتد الى الموروث الثقافي في الوعي العربي، وذهب سعد الدين ابراهيم الى أن هناك شيئاً في ثقافتنا يعادي الديموقراطية، والى أن الاستبداد يعود الى «ينابيع ثقافتنا المعاصرة التي تجعل جماهيرنا متواطئة في قبوله والتعايش معه».
كما ذهب فؤاد اسحق الخوري الى أن «العنف من صلب تراثنا، وأنه كأسلوب للتعامل جزء من شخصيتنا الاجتماعية والنفسية التي من سماتها عقدة السيطرة». في الإطار ذاته، يندرج تصور خلدون حسن النقيب أن «الذل والإذلال سمة عامة في ثقافتنا، وإعلان العبودية أمر مقبول في تراثنا».
من هذا المنطلق، طرحت على الفكر العربي المعاصر إشكالية العقلية البطريركية في البنية الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، إذ إن هذه العقلية هي التي تقف عائقاً أمام تطور المجتمع العربي، فما زالت العائلة في هذا المجتمع تقوم بالحفاظ على استمرارية السلطة الفوقية وتدعم الثقافة المسيطرة. عليه، رأت فاطمة المرنيسي أن كل الثورات لن تجدي طالما المرأة خاضعة خانقة، ورأى هشام شرابي أن النظام الأبوي باستناده الى القبيلة والعقيدة الدينية، لا مكان فيه لمفهوم العقد الاجتماعي.
في رؤية مختلفة للإحباط الأيديولوجي من المنظور السوسيولوجي والبنيوي، قرأ خلدون حسن النقيب أزمة المجتمع العربي من خلال الصراع والتفاعل بين القوى الفاعلة في هذا المجتمع، أي المدينة والقرية والبادية، وقرأها سمير أمين من خلال أزمة الرأسمالية العالمية وقوانين التوسع الرأسمالي على صعيد عالمي، فيما رأى إليها برهان غليون باعتبارها ثمرة الحداثة المزيفة أو المفسدة، واختصرها حليم بركات في أن مجتمعنا العربي المعاصر متمركز حول العائلة وينطوي على أبوية تعاني النزعة الاستبدادية على مختلف الصعد، تتجاذبه الحداثة والسلفية في علاقاته الاجتماعية.
وثمة تصورات تأسيسية لأيديولوجيا الإحباط في فكر الشيوعيين العرب وفي تنظيرات محمد عابد الجابري ومحمد أركون. فالشيوعيون ألفوا أصل الإحباط في غياب السوق الاقتصادية الموحدة وتخلف القاعدة، أي البنية الاقتصادية التحتية التي تؤسس من منظورهم للوحدة العربية. أما محمد عابد الجابري، فوجه إصبع الاتهام الى «القوة أو الملكة او الأداة التي يقرأ بها العربي ويفكر ويحلّل ويحاكم، أي العقل العربي ذاته».
في الاتجاه ذاته، ذهب محمد أركون الذي رأى الى «العقل الإسلامي» والعقل العربي المنضوي تحته، على أنه عقل ديني لم يتجاوز المرحلة الدينية من الوجود، وهو قواعد وتصورات ومبادئ منتجة للواقع الاجتماعي، ما يستدعي ثورة فكرية يجب أن تذهب الى أعماق الأمور. ومن هنا، فإن الأزمة الحقيقية كامنة في أنماطنا الثقافية التي يجب أن تواجه بثورة لا أسس لها في رأينا في الواقع العربي.
هكذا، بات الإنسان العربي رهين الأيديولوجيا وأسيرها، تحدد مساره وتوجهه، ترسم حاضره ومستقبله، تجعل ماضيه قيداً لغده، تاريخه مختصراً لكينونته.
على الضد من هذه التصورات الحتمية التي لا تعبأ بالإنسان العربي وإرادته، نرى أن الوحدة العربية أو المجتمع الاشتراكي أو الديموقراطية الاجتماعية، ليست أشياء مقررة سلفاً. ليست ثابتة أو أكيدة، إنما هي احتمالات للمستقبل، مشاريع قد تتحقق بإرادة الإنسان العربي وإصراره وجهوده، وقد لا ترى النور إطلاقاً. كما أن شكل المجتمع العربي ونمط أو أنماط تفكير الإنسان العربي لا تتحدد بالاقتصاد أو ببنية اجتماعية أو سياسية أو أنتروبولوجية قبلية تتشكل بموجبها صورة العلاقات الاجتماعية وطبيعة تفكير الإنسان العربي، بل هي رهن بالتحولات التي يعمل العربي على وسم وجوده بها والأحلام التي يرنو إليها، والرؤى التي يتصورها لمصيره كفرد ولأمته كجماعة ينتمي إليها، وللتاريخ كمدى لهذه التحولات والأحلام والرؤى.
بمنظور كهذا، في رأينا، تتراجع أوهام الأيديولوجيا ويتقدم الإنسان العربي كصانع أول ووحيد لتاريخه. |