التاريخ: أيار ٢٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
يسقط بشار الإيراني... يبقى بشار الروسي - عمر قدور
إذا صدقت النوايا الأميركية، يُفترض أننا سنكون على موعد مع تحرك أميركي - إقليمي لمواجهة النفوذ الإيراني في المنطقة. الاستراتيجية الجديدة المعلنة تضع القضية السورية كتفصيل ضمن الملف الإيراني، ولا تضعها في مقدمة الأولويات، ربما بسبب تداخل النفوذين الروسي والإيراني في سورية، أو تجنباً لاستفزاز موسكو ومواجهتها.

في الميدان، تعزز القوات الأميركية خطوط رسم النفوذ، وكانت الطائرات الأميركية قد قصفت رتلاً للميليشيات الشيعية التي حاولت التقدم في اتجاه معبر التنف الحدودي مع العراق. الهمّ الأميركي ينحصر فعلياً في عدم سيطرة النظام وحليفه الإيراني على مناطق محاذية للحدود العراقية، أي فك الارتباط البري بين منطقتي نفوذ طهران في العراق وسورية. للغاية ذاتها، زادت إدارة ترامب دعمها للميليشيات الكردية التي تسيطر على أراضٍ واسعة متاخمة للحدود العراقية، ولا يُعرف حقاً إلى أي حد ستلتزم هذه الميليشيات بالتوجهات الأميركية، مع امتلاكها أيضاً علاقات وثيقة بالنظام وحليفيه الروسي والإيراني.

مع أفضل تنفيذ للمخطط الأميركي الراهن، ستفقد إيران تواصلها البري مع نظام بشار، ولن تفقد إمكان دعمه ودعم حزب الله بواسطة الشحنات الجوية، إلا إذا قام الطيران الإسرائيلي بما يشبه المناوبات المستمرة لقصف الدعم الواصل عبر المطارات. بالطبع، ذلك لا ينطبق على شحنات الأسلحة القادمة من روسيا، والموجّهة حصراً الى قوات بشار، والداخلة ضمن تفاهمات روسية - إسرائيلية.

في أثناء الحديث المتزايد عن مواجهة النفوذ الإيراني، كان النظام وحلفاؤه يعلنون مدينة حمص خالية من المعارضة، بعد تهجير آخر دفعة من المقاتلين. الجديد في سلسلة التهجير، تهجير مقاتلي حي القابون في دمشق، وهو الحي الذي تصل إليه أنفاق تهريب المواد الغذائية الضرورية إلى غوطة دمشق المحاصرة، ما يعني تضييق الخناق على الأخيرة، ووقوع كارثة إنسانية تجبرها على الاستسلام وفق سياسة «الجوع أو الركوع». هذا إذا لم نأخذ في الحسبان الاقتتال الداخلي في الغوطة، والذي طالما تغذى وسيتغذى من الخلافات الإقليمية، وبالطبع طالما استفاد وسيستفيد منه النظام.

هكذا يأتي في محله الارتياح الذي عبّر عنه وزير الدفاع الروسي، الأربعاء الفائت، أمام مجلس شيوخ بلاده، فالتطورات الميدانية تصب جميعاً في مصلحة النظام والمصلحة الروسية. لا وجود لمشروع أو كلام جدي جديد يهدد نظام بشار، وتهديد النفوذ الإيراني في المنطقة لا يصيب المصالح الروسية بالأذى، إذا لم يقدّم الفائدة لها. نظام بشار قد يتأذى من إضعاف النفوذ الإيراني، إذا اضطر لارتهان كلي للنفوذ الروسي، وفقد الإمكانية الحالية للمناورة بين الحليفين، لكنه في المقابل غير مهدد بالإطاحة، إلا إذا حانت لحظة الصفقة الدولية - الإقليمية الكبرى، وهذا احتمال ضئيل في المدى المنظور.

اقتسام مناطق النفوذ الحالية لا يكرس فقط سيطرة النظام على مساحة شاسعة من البلاد، تتضمن مدينتي دمشق وحلب بثقلهما ورمزيتهما، وإنما قد يكون مصدر راحة غير مُعبّر عنها للتخلص من عبء الجبهات العديدة المشتعلة، ومن عبء وهم استعادة السيطرة عليها. الأهم أن هذا يقوّض عملياً القضية السورية، بوصفها أساساً قضية تخلص من نظام استبداد عانت منه الشرائح الأوسع من السوريين. وقوع مناطق سيطرة النظام تحت النفوذ الروسي لا يعني أنها ستكون أفضل حالاً من النفوذين الإيراني والروسي معاً، إلا في المحصلة العامة التي يعنيها تحجيم النفوذ الإيراني ككل، إذ كما هو معلوم، لم تتوقف آلة الإرهاب التابعة للنظام عن العمل في ظلهما، وما تكشف عنه باستمرار تقارير المنظمات الحقوقية الدولية من مسالخ ومحارق هو من طبيعة إرهاب النظام في معزل عن إرهاب داعميه.

لم يصبح نظام الأسد إرهابياً بسبب الدعم الإيراني أو الروسي، وقد باشر ارتكاب المجازر الكبرى منذ ما يزيد عن ربع قرن على الأقل، أما اعتقال عشرات الآلاف من أصحاب الرأي وتصدير الإرهاب إلى الدول المجاورة، فله فيهما باع تقارب ثلاثة عقود من الزمن. بالتأكيد كان النظام سيسقط بفعل الثورة، لولا الدعمين الإيراني والروسي، وفي وقت ما كان مهدداً بالسقوط حتى مع دعم الميليشيات الشيعية لولا التدخل الروسي المباشر لإنقاذه. هذه الوقائع تكشف عن أولوية الدعم الروسي في الإبقاء على نظام بشار، وتجرد من الوجاهة ذلك التصور الذي ينص على أن مواجهة النفوذ الإيراني وحدها كفيلة بالإجهاز عليه.

الفائدة المتصوَّرة في المحصلة نتيجة مواجهة إيران قد يستفيد منها السوريون على المدى الأبعد، لكنها لا تقدم لهم حلولاً مباشرة تتعلق بقضيتهم منفصلة عن القضية الإقليمية، ولن تتحقق الفائدة لهم حتى إذا انحسر الدور الإيراني إقليمياً وبقي نظام بشار برعاية روسية، ولو على مناطق نفوذه الحالية فقط. أبعد من ذلك، حصر القضية السورية في موضوعي النفوذ الإيراني والمنظمات الإرهابية يعني عملياً تهميش مصير نظام الأسد بعدّه الأولوية القصوى سورياً، ويعني حتى التراجع عن القناعة بأنه مصدر رئيسي للإرهاب ضد السوريين وفي المنطقة.

بلغة الأرقام، تدخل القضية المرحلة الصفرية، بمعنى عدم وجود أدنى اعتبار لها من جانب القوى الفاعلة على الأرض، وإذا كانت النسبة الأكبر من الصراع في سورية قد أصبحت خارجية منذ خمس سنوات، فإن لتلاشي النسبة الداخلية منه مؤدى واحداً هو بقاء النظام، ولم تعد مستبعدة فرضية التقسيم إذا اطمأنت القوى الخارجية إلى مناطق نفوذها، وفضلت عدم الدخول في مواجهات مكلفة.

في أحسن الأحوال، هذه الوضعية لن تكون خطوة نحو حل قريب يستفيد منه عموم السوريين، حتى إذا مضت الاستراتيجية الجديدة في عملها من دون مقاومة إيرانية شرسة.

كان يمكن المصالح السورية أن تتطابق تقريباً مع المصالح الدولية والإقليمية في ما لو نُظِر إلى سورية جملةً، لا فقط إلى ذلك الشريط الحدودي مع العراق. كان يمكن أن يحدث ذلك أيضاً لو لوحظ الإرهاب الروسي، ولم تُعتبر موسكو شريكاً مقبولاً على رغم كل جرائم الحرب التي ارتكبتها في سورية، وعلى رغم معاندتها كل محاولات إغرائها للتنازل عن نظام بشار. في المحصلة، أن يسقط بشار الإيراني، ويبقى بشار الروسي، هذا لا يشكل فرقاً بالنسبة الى ملايين السوريين، وربما لا يشكل فرقاً يُذكر لبشار نفسه.