التاريخ: أيار ٢٨, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
عن «المستقبل» الاستقلالي و «حزب الله» التقدمي... ولبنانيين رجعيين - حازم الامين
كشفت النزاعات الأهلية اللبنانية عن خطوط انقسام جديدة في الآونة الأخيرة، عناوينها كاشفة مضامين مختلفة عن مضامين خط الانقسام التقليدي الذي اشتغل في السنوات العشر الأخيرة، أي ذاك الذي يرسم لبنان منقسماً بين محور يقوده «حزب الله» الشيعي ومحور آخر يتصدره تيار المستقبل السنّي، بينما المسيحيون موزعون على هامشي المحورين.

واقعتان هامشيتان شهدتهما الأسابيع الفائتة. الأولى حديث أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصرالله عن تشجيعه الزواج المبكر، وهو ما اعتبره ناشطون مدنيون تشجيعاً لزواج القاصرات، والثانية حملة نظمتها جمعية العلماء المسلمين لمنع تنظيم ندوة في بيروت عن حقوق المثليين، وهو ما أثار جدلاً واسعاً شارك فيه صحافيون وكتاب وأحزاب وجمعيات مدنية وأهلية.

أما علاقة الواقعتين بالانقسام الأصلي، فتتمثل في أن الأولى أثارها «قائد 8 آذار»، فيما الثانية بادرت إليها جمعية العلماء المسلمين وشارك فيها إلى جانبها تيار المستقبل (متصدر الجماعة اللبنانية الأخرى). الواقعة الأولى كشفت عن «تماسك» أيديولوجي للجماعة الأهلية اللبنانية المتحلقة حول نصرالله، وتم التعبير عن هذا التماسك بالتفاف «علمانيي» محور الممانعة حول «خطاب السيد» ودفاعهم عنه، وتقديم تفسيرات «ثوروية» وإيضاحات حول مقاصده من تشجيع الزواج المبكر، فيما الواقعة الثانية كانت مناسبة لمزيد من الانشقاقات، ورسم لمسافات جديدة بين نخب لطالما اعتقدت أنها أقرب إلى «المزاج الاستقلالي» لجماعة 14 آذار التي يقودها تيار المستقبل.

والحال أن الفارق بين ردي فعل النخب غير المتدينة من الجماعتين، يتعدى بدلالاته فكرة التماسك حول خطاب نصرالله «التقدمي» لجهة تشجعيه الزواج المبكر وسخريته من الدعوات لتحديد سن الزواج بـ «18 عاماً»، والانفكاك عن الخطاب «الرجعي» لتيار المستقبل لجهة التحاقه بخيار جمعية العلماء المسلمين، وبتجريده حملة على إعلاميين وناشطين مدنيين رفض فيها حقهم في قول آرائهم.

فنصرالله في وعي جماعته «تقدمي» حتى لو دعا إلى تشجيع زواج من لم يبلغ سن الزواج، ذاك أن تقدميته أهلية وموقعه المذهبي محفوظ ضمنها، فيما هذه ليست حال المستقبل مع الجماعات التي ضمه إليها الكثير من المحطات. فـ «بيروت مدينتي» التي خاضت ضد المسقبل معركة انتخابات بلدية ضارية، جاء معظم ناشطيها من تظاهرة 14 آذار عام 2005، تلك التي شاركت فيها النخب المدنية اللبنانية بمعظمها، والتي جاءت رداً على التظاهرة التي دعا إليها نصرالله لشكر النظام السوري، وأهدى خلالها رستم غزالة بندقية المقاومة.

وتوالت الانشقاقات «المدنية» عن 14 آذار، فيما الجماعة اللبنانية الأخرى تشهد مزيداً من التلاحم الأيديولوجي والصخري. تهشم المستقبل بصفته النواة الأهلية للجماعة «الاستقلالية»، فيما شهد «حزب الله» مزيداً من اللحمة من حوله، بصفته أيضاً النواة الأهلية للجماعة «الممانعة».

وهذه حال لبنان منذ استقلاله، إذ لطالما شكلت موضوعات خارجه مادة تماسك جماعة فيه، في مقابل هشاشة المادة الداخلية لتماسك الجماعة الأخرى. 14 آذار كانت لحظة لبنانية عابرة، فيما 8 آذار هي حقيقة خارجية ثابتة. الزواج المبكر يصبح في وعي يساريين غير متدينين تفصيلاً عابراً، لا ضير في الدفاع عنه، في سياق معركة كبرى، فيما حقوق الأقليات الجنسية والدفاع عن حقوق الأفراد تصبح موضوع انشقاق جوهري وأخلاقي عن المستقبل وتابعيه في 14 آذار.

هنا، تبدو هشاشة الجماعة «الاستقلالية» في مقابل صلابة الجماعة «الممانعة»، نوعاً من الهشاشة الحميدة، ذاك أنها امتداد لجوهر الجماعة المتشكل من عناصر ضعيفة الانسجام، لكنها تشبه جريان الحياة الحديثة، وما ينجم عن هذا الجريان من تذررٍ وإعادة تشكل وفق معطيات الزمن العادي غير المثبت بيقينيات الأيديولوجيا والدين والمذهب. أما الصلابة الصخرية للجماعة اللبنانية الأخرى، فتبدو امتداداً لزمن مثبت بحقائق لا تحيد ولا تتغير. الشر دائماً خارجها، والحق ثابت ولا يتغير، والسيد ينطق بالحق حتى لو كان ذلك على حساب قناعات بدهية. ما شهده لبنان في الأسابيع القلية الفائتة من سجالات حول حقوق مدنية ومواجهات افتراضية أعاد الاعتبار إلى نوع موازٍ من الاصطفافات، وهو ما أصاب جماعة أهلية وسياسية من دون أن يصيب الجماعة الأخرى. لكن الجماعة المصابة بالتشظي تشبه لبنان المُشتهى أكثر من الجماعة الأخرى التي تستمد صلابتها من موضوع خارجي، ومن قضايا لا تتصل بجريان الحياة العادية وبتقدمها وبعلاقتها بهموم حديثة.

هنا، على المرء أن يتوقع هزيمة جديدة، ذاك أن الهشاشة جزء من طبيعة الأشياء اذا ما طرح المرء على نفسه أن يندرج في سياق من التقدم. وفي بلد كلبنان، الطائفة فيه هي البناء الأهلي الأصلب والأمتن، يصير أمثالنا مجرد منشقين لا مكان لهم في متن التظاهرة، ولا في متن السياسة.

قد تكون «بيروت مدينتي» محاولة جدية للقول أن للهشاشة المحمودة أفقاً، وأن ظلاً ضعيفاً لخط انقسام مواز بدأ يلوح. وقد تكون حملات الاحتجاج المدني على الخطاب الديني والمذهبي صوتاً ضرورياً للقول أن في لبنان مواطناً ثالثاً، ضعيفاً ومتنازعاً، لكنه موجود، ويسعى ويحاول. لكن، ما زال من المبكر الحديث عن اختراق لخط الانقسام المعهود، ذاك أن الأخير يدافع عن نفسه على نحو عجائبي. فلقاء المستقبل و «حزب الله» على تأييد الزواج المبكر وعلى رفض الحقوق المدنية للأقليات الجنسية والثقافية، ورفض قانون حماية المرأة من العنف، هذه جميعها لا تجعلهما في موقع واحد، ذاك أن الانقسام خارجهما، وخارج لبنان أصلاً. وهذا ما يجعل اختراقهما بصوت داخلي أمراً مستحيلاً. فـ «حزب الله» «تقدمي» على رغم مواقف أمينه العام الرجعية، والمستقبل استقلالي على رغم مسارعته إلى المقايضة على الاستقلال. والمنشقون هم مجرد شذاذ آفاق لن تجد دعاواهم سوى لعنات الملالي الجدد، وشماتة يسار ولاية الفقيه.