التاريخ: أيار ٢٧, ٢٠١٧
المصدر: جريدة الحياة
لبنان المتأثر سلباً بأزمة المنطقة يعجز عن الاتفاق على قانون للانتخابات
فوزي زيدان 
تعيش منطقة الشرق الأوسط حالاً من الترقُّب في انتظار ردود فعل طهران على قرارات القمم الثلاث التي عُقِدت في الرياض الأسبوع الماضي بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب والقيادة السعودية وقيادات دول مجلس التعاون الخليجي والدول الإسلامية، والتي أكدت رفض القادة الكامل لممارسات النظام الإيراني المزعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم، ولاستمرار دعمه الإرهاب والتطرف، وتدخّله في الشؤون الداخلية للدول، والتزامها بالتصدي لذلك. وكرّست المقاربة الأميركية الجديدة تجاه إيران في ساحات نفوذها عودة الوئام إلى العلاقات مع دول الخليج بعد الخلاف مع إدارة الرئيس الأميركي السابق باراك أوباما، والافتراق مع إيران. وتعتمد التطورات المقبلة في الإقليم على طريقة تعامل طهران مع هذه القرارات وردود فعلها عليها.

وبينما يترقب العالم ما ستؤول إليه الأوضاع في الإقليم بعد قمم الرياض التي ربما تكون حاسمة في تحديد مصيره، تتقاذف القيادات السياسية اللبنانية التهم حول فشلها في إنتاج قانون انتخابات نيابية جديد، غير مقدّرة خطورة الأوضاع في المنطقة، والتي يشكل لبنان ركناً ضعيفاً فيها، نتيجة بنيته المجتمعية الضعيفة، والنزوح السوري الكثيف، وانخراط «حزب الله» في المشروع الإيراني، وهشاشة الوضع الاقتصادي.

ويعتبر النظام اللبناني من أوائل الأنظمة الديموقراطية في الدول العربية إن لم يكن أولها، فهو يرتكز على مشاركة الناس في إدارة شؤونهم، والتناوب السلمي على السلطة بانتخابات حرة ونزيهة وحق الانتقاد والمساءلة والمحاسبة واحترام الحريات الفردية والعامة والمساواة أمام القانون واحترام سلطته. وهو نظام برلماني يشارك فيه جميع المواطنين المؤهلين على قدم المساواة، من خلال ممثلين عنهم منتخبين، في اقتراح القوانين وتطويرها. وتشمل الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية التي تمكن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي.

وكانت الديموقراطية تمارَس في لبنان بصورة معقولة منذ الاستقلال عام 1943 وحتى اتفاق الطائف الذي أنهى الحرب الأهلية عام 1989. وكان مجلس النواب قبل «اتفاق الطائف» أكثر فاعلية مما أصبح عليه بعد الاتفاق، حيث كانت الحكومات تتشكل من الأكثريات النيابية وكانت المعارضات المؤلفة من الأقليات النيابية تقوم بأدوار الرقابة والمحاسبة على أكمل وجه. أما الحكومات التي تشكلت بعد الاتفاق فكانت كلها حكومات وحدة وطنية تشارك فيها كل القوى السياسية الرئيسية، ما أضعف دور المجلس في مراقبة أعمال الحكومة ومحاسبتها ونزع الثقة عنها لدى فشلها في مهماتها، نتيجة التمثيل الواسع للفرقاء السياسيين فيها. وبذلك سقط مفهوم الممارسة الديموقراطية الحقيقية ليحل مكانه مفهوم آخر ابتدعوا له اسم «الديموقراطية التوافقية»، ما يعني وجوب توافق الكتل السياسية الرئيسية على القضايا والملفات المهمة، وغالباً يتم هذا التوافق عبر الصفقات والمحاصصات.

والكتل السياسية في مجلس النواب هي كتل طائفية، ولو أن بعضها يدعي أنه عابر للطوائف. ولا يؤسّس هذا النظام الطائفي لقيام دولة قوية ومتماسكة، فقواعد العيش المشترك بين الطوائف التي تتطلب تقاطع كل طائفة مع الطوائف الأخرى حول ثوابت وطنية مشتركة، مفقودة، نتيجة الخلاف الحاد حول عدد من القضايا الوطنية الرئيسية. وقد أثبتت التجارب أن الخروج عن المشترك يهز الاستقرار ويضرب الميثاق ويشل الدولة ويعطل البلد، وهذا ما يحصل في شكل متواصل في السنوات الأخيرة.

وما نشهده في هذه الأيام من تجاذبات حول قانون الانتخابات يؤكد فشل النظام القائم، حتى بات إنجاز أي استحقاق دستوري أو القيام بأي إصلاحات سياسية، في ظل غياب التفاهمات السياسية، عملية مستحيلة. كما أن التحركات والمشاورات الجارية تدور في حلقة مفرغة، نتيجة وضع كل فريق سياسي مشروع قانون على قياس زعامته وتطلعه إلى ما يعزز نفوذه، الأمر الذي يؤدي إلى تغذية النزعة الفئوية والتباعد بين أبناء الوطن الواحد، بينما المطلوب قانون يؤمن الانصهار الوطني ويعزز الوحدة بين مكونات الشعب.

وبعد أن أجمع الفرقاء السياسيون طوال الأشهر الماضية على رفض إجراء الانتخابات النيابية المقبلة على أساس القانون الأكثري النافذ المعروف بقانون الستين لكونه أقر عام 1960 والمعدل في اتفاق الدوحة عام 2008، بذريعة أنه لا يحقق التمثيل الصحيح للمسيحيين ويمنع القوى السياسية غير الطائفية من الوصول إلى مجلس النواب، عادوا اليوم، بعد أن فشلوا في الاتفاق على صيغة موحدة لقانون جديد، إلى طرحه مجدداً كي تُجرى الانتخابات على أساسه. والسبب الرئيسي للفشل تغليب كل فريق حساباته الخاصة على الحسابات الوطنية الجامعة وسعيه إلى تفصيل قانون انتخابات على قياسه وتبعاً لمصالحه. وتُجرى المفاوضات بين الفرقاء السياسيين الرئيسيين على قاعدة تقاسم المقاعد النيابية مسبقاً، حتى قبل إصدار القانون. وشكلت النقاشات التي تدور بينهم مناسبة لكي يفحص كل طرف نيات الأطراف الأخرى حول الأدوار التي تتصورها لنفسها ولطوائفها داخل النظام الذي يشكل إنتاج قانون انتخابات جديد مدخلاً لإعادة إنتاج خريطة التمثيل السياسي فيه. بينما كان المطلوب منهم العمل على إنتاج قانون يلبي طموحات اللبنانيين بتأمين التمثيل الصحيح لكل مكونات المجتمع، ويتضمن معايير واحدة وتقسيمات متساوية، بحيث تأتي السلطة السياسية الناجمة عنه معبّرة عن إرادة المواطنين.

وإذا تطلّعنا إلى الخريطة السياسية نجد أن الثنائي المسيحي الذي يضم «التيار الوطني الحر» وحزب «القوات اللبنانية» يريد إثبات قدرته على الحصول على ما يقرره في ما خص القرار المسيحي من خلال إنتاج قانون انتخابات يؤمن صحة التمثيل المسيحي في مجلس النواب، ويحد من عدد النواب المنتخبين بأصوات معظمها من المسلمين، ويقلص من نفوذ خصومه، ويضمن الثلث الضامن أو المعطل في مجلس النواب كي يتحكم في السلطتين التشريعية والتنفيذية وتكون له الكلمة الفصل في انتخابات رئاسة الجمهورية المقبلة. والثنائي الشيعي المشكل من حركة «أمل» و «حزب الله» يريد قانوناً يرتكز على النظام النسبي الكامل والدائرة الواحدة أو الدوائر الست الكبرى، كي يضمن دخول حلفائه في الطوائف الأخرى إلى مجلس النواب. وكذلك الأمر بالنسبة إلى «تيار المستقبل» الممثل الغالبية السنّية فإنه يسعى إلى قانون يحصر التمثيل السنّي فيه، ولا يحرمه من النواب المسيحيين الذين ينتخبون بأصوات السنّة.

ويُسقط، ربط الانتخابات بتسوية بين الأحزاب والقوى السياسية الممسكة بالسلطة حول القانون الذي على أساسه ستجرى هذه العملية الديموقراطية، المفهوم الحقيقي للانتخابات ويعريها من ركن أساسي من أركانها، المتمثل في إعطاء الناخبين حرية اختيار من يمثلهم في السلطة التشريعية.

وما زالت عجلة الاتصالات من أجل إنتاج قانون جديد، قبل انتهاء ولاية مجلس النواب في 20 حزيران (يونيو) المقبل، تدور بوتيرة سريعة ولكن من دون نتائج ملموسة حتى الآن، والأيام المقبلة ستكون حاسمة لمعرفة مسار المشاورات الجارية. ولكن من المؤكد أن الجميع وصل إلى الأفق المسدود، نتيجة السقوف العالية التي طرحها كل فريق مع بداية النقاش بهدف تحسين شروطه التفاوضية، والتي أضحى البعض أسيراً لها. وأصبح الجميع يتهيب من الفراغ التشريعي الذي ترفضه «الثنائية الشيعية» وتهدد في حال حصوله باتخاذ خطوات تهدد «الميثاقية»، وهي مفردة أخرى أدخلها رموز الطوائف على قاموس السياسة اللبنانية، وبالتالي الوحدة الوطنية.

فهل ستتمكن القوى السياسية من إنتاج قانون انتخابات جديد في الأيام القليلة الباقية يحقق بعض تطلعات اللبنانيين ويقوم على النظام النسبي الكامل والدوائر الوسطى والصوت التفضيلي غير الطائفي، أم إنها ستُبقي القديم على قدمه بحيث تجرى الانتخابات على القانون النافذ؟
 

* كاتب لبناني.